فجأة، ينفعل النظام
الإيراني، ويتهور، ويطالب سريعاً بثمن
تكريت، حتى قبل أن تحرَّر!. يتحدث عن حقوقه التاريخية في أرض جيرانه، فيختصر التاريخ والمسافات والدماء والهويات، ما دامت ثمة هوية فارسية عميقة يريد علي يونسي، مستشار الرئيس روحاني الذي ينحدر من أصول إصلاحية، أن تكون بغداد عاصمتها، مقابل هوية مذهبية شيعية يطالب بتزعّمها حسن هاني زاده، الصحافي المقرّب من المحافظين. وأمام هاتين الهويتين، لا معنى لوجود بلد كالعراق.
للأمر أصول وجذور، وحتى عندما يصل الاختلاف الإيراني الى حدّ التقاتل داخلياً، ووضع كبار قادة
«الإصلاح» في الإقامات الجبرية، فالاتفاق على الموقف من
العراق يبدو محسوماً، وستدعمه دائماً عبارة «لولا إيران لسقطت بغداد» لتتحوّل الى دين ثقيل، أكبر بكثير من البلايين التي تطالب بها إيران تعويضاً عن حرب السنوات الثماني، والتي حصلت عليها مضاعفة منذ 2003.
المرجع الديني الأعلى علي السيستاني أدرك، وسط خجل معظم القيادات السياسية والحكومية العراقية وترددها، أن تصريحات مستشار الرئيس الإيراني لشؤون الأقليات علي يونسي، تقف خلفها أجندة مريبة. تعامل مع توقيت التصريح بحساسية بالغة، عندما ربطه في خطبة الجمعة على لسان الشيخ أحمد الصافي، بدور إيران في المعارك الأخيرة، فـ «المساعدة الإيرانية لا تعني غضّ الطرف عن سيادة العراق واستقلاله».
بالطبع تصريحات يونسي، التي لعبت على وتر الإمبراطورية الإيرانية، كانت بمثابة الحجر الذي حرّك الماء الراكد، ولهذا من الصعب قراءتها كرأي فردي جامح، بل بالون اختبار، على الإيرانيين والعراقيين تداول أبعاده مطولاً قبل التوصّل الى الخطوة التالية.
عندما انبرى السيستاني الفارسي الجذور، بصراحة للدفاع عن هوية العراق، صمت بعض العراقيين الذين لا شك في أنهم من أحفاد قبائل قدمت الى العراق من الحجاز خلال القرن الثامن عشر، ومنهم من أيد يونسي وزاده سراً وعلناً.
وهناك عراقيون وجدوا في تجليات الإمبراطورية الإيرانية، الأخيرة، مبرراً لتأييدهم الطائفي لـ «داعش» نكاية بالشيعة، وربما صفقوا لأبي محمد العدناني وهو يستنهض السنة في كل مكان في المعمورة، ويخصّ سنة العراق لحرب «الرافضة».
في الأوساط الشيعية المتديّنة، كانت الحساسية في أقصاها، فالنجف رائدة التشيع العربي، تدرك مغزى تلك التصريحات، وتعرف أنها مستهدفة في جوهر وجودها، عندما يراد لها أن تكون تابعة لنظرية ولاية الفقيه، وهي التي احتفظت على امتداد قرون برؤيتها المستقلّة عن السياسة، والمتسامحة مع التعايش مع المذاهب والأديان، والجاذبة لتقليد ملايين الشيعة عبر العالم، يتقدّمهم الإيرانيون أنفسهم.
«لولا إيران»، عبارة تستدعي تأويلات كثيرة، فبعض أهم السياسيين ورجال الدين الشيعة الذين عايشوا كل مكابدات حكم العراق منذ 2003، كانوا يحاولون تغيير مجرى العبارة وإعادتها الى أصول أعمق.
فلولا إيران، لكان بإمكان شيعة العراق إدارة تجربة سياسية ناجحة، تتحوّل مع مرور الزمن الى نموذج بديل للحكم، ليس فقط للعرب «الذين يكرهون الشيعة» كما يرى زاده، وإنما لشيعة إيران أولاً.
ولولا إيران، لكان الفساد أقل استشراءً، ولكانت الديموقراطية أكثر تجذراً، ولكان بالإمكان على الأقل إجبار واشنطن على تأمين البلاد بشكل مناسب كجزء من ثمن الاحتلال.
يكاد معظم شيعة العراق يحمّلون العرب مسؤولية «داعش»، فالتساهل العربي أمام التنظيمات والأفكار الإرهابية، كان سمح، وربما ما زال، بدعم التطرف.
ولكن في النسخة العراقية تحديداً، يقول بعض العارفين إنه «لولا دعم إيران لأخطاء حكومة المالكي، لكان بالإمكان معالجة أزمة المناطق السنية مبكراً وسحب البيئة التي أنتجت داعش».
ولكن، الى ماذا يرمي الجار الذي يراه هاني زاده، متسامحاً، ومحباً، ومستعداً دائما لدفع جنرالاته للدفاع عن العراق عندما يفشل العرب في ذلك؟
يعرف زاده ويونسي بالتأكيد، أن الحديث عن الوحدة التاريخية مع العراق محض «هلوسة نووية»، فالأول يحاول أن يستغفل حتى البديهيات حين يطالب شيخاً من بني كعب في مدينة العمارة، بنزع عقاله وهو رمزه وتاريخه وشرفه، فيما لم تنجح بلاده في نزع عقال شيخ بني كعب في الأحواز طوال قرون مضت!، ويتحايل الثاني على التاريخ عندما يلغي اعتزاز العراقيين بإرث سومر وبابل واكد وآشور كمكامن هوية تسبق الدولة الساسانية، ويصل الأمر أن تصادر قناة «العالم» الإيرانية دماء مئات العراقيين الذين سقطوا على تخوم الدور والعلم والبوعجيل وتكريت، بإطلاق هاشتاغ عبر تويتر باسم «رجالنا في تكريت».
واقع الحال، أن جلد العرب لشيعة العراق الذين يمثلون جوهر عروبته، ونعتهم إعلامياً وسياسياً بالصفويين والفرس، والطعن بهويتهم العراقية الأصيلة والممتدة، كان أنتج جروحاً، لا يمكن أن تندمل بسهولة. وزاده، وهو يكتب مقاله في وكالة «مهر» المقرّبة من المرشد الإيراني، عن «العروبة المزيفة»، يستحضر بدوره كل هذه الجروح، ويحاول إبقاءها مفتوحة.
غالباً، تسعى طهران الى إنتاج نصر في العراق بيد العراقيين أنفسهم وبالطبع بدمائهم، على أن يتيح لها ذلك الحديث عن زعامة إقليمية معترف بها، تكون الثمن الأميركي لتجميد برنامجها النووي.
ويؤيد بعض العراقيين في الأوساط السياسية والدينية هذا المنحى، حيث يعتبر قيادي شيعي بارز أن إيران بلد صاعد بقوة لتصدّر الإقليم، على أساس اتفاق متوقّع مع واشنطن يضع أرضية لحل الأزمة السورية، واليمنية أيضاً، وأن القبول بالانخراط تحت ظلّ إيران قد يسمح لشيعة العراق مستقبلاً بإنتاج حكم ناجح ومزدهر بحماية إيرانية، بعدما فشلت واشنطن في توفير مثل هذه الحماية.
وعلى رغم أن من مفارقات التاريخ أن يسعى بلد نصف شعبه من المقاتلين، وتغفو صحاريه على بحور من الآبار النفطية والغازية، الى حماية خارجية للمستقبل، فهذا الطرح قد يكون واقعياً على المستوى النظري، ما عدا أنه ينكر الإجابة عن اللعبة التحليلية الأولى: فإيران التي لم تسمح لشيعة العراق بإنتاج حكم ناجح خلال عشر سنوات، لأن مثل هذا الحكم يقوّض حلم الإمبراطورية العابرة على أجساد شيعة العالم، كيف يمكن أن تسمح لهذه التجربة بالنجاح اليوم وغداً؟
كل ما تقدّم لا يروق لكثير من العراقيين المقتنعين بأن إيران وقفت معهم عندما تركهم الجميع يواجهون غول «داعش»، وهؤلاء محقّون أيضاً، فالمساعدة الإيرانية يجب أن تقابل بالشكر العراقي، لكن ليس على طريقة من يقول مازحاً: «ساعدنا الإيرانيون في تحرير تكريت، وكمكافأة لهم سنمنحهم العراق بأكمله»!.
(نقلا عن صحيفة الحياة اللندنية)