المبالغة في حظر إظهار الخلافات فاقمها لدى الحركات الإسلامية

تعتبر الحركات الإسلامية بحسب روايتها المنشئة لوجودها، كيانات دعوية تستمد شرعية وجودها من التكاليف الربانية الآمرة بالدعوة إلى الله والموجبة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهي حركات مشبعة برؤاها الدينية المؤسِّسة لمشاريعها الإصلاحية والتغييرية. 

لكن تلك الحركات تباينت في رؤاها الإصلاحية والتغييرية، التي تراوحت في مشاريعها البارزة بين منهجية الإصلاح المرحلي التدريجي، وطريقة التغيير الانقلابي الجذري، وخيار المواجهة العنفية المسلحة، ولكل منهجية منها منظرون ودعاة وأدبيات تضمنت رؤاها المؤسِّسة والشارحة والمدافعة.

وتتفق غالب تلك الحركات على تحديد مقاصدها الكبرى، المتمثلة في استئناف الحياة الإسلامية من جديد، بعد غياب الكيان السياسي الجامع للأمة الإسلامية، على إثر سقوط الخلافة العثمانية سنة 1924.

إلا إنها مع اتفاقها ذاك، لم تستطع أن تتوافق على أطر تنظيمية جامعة، توفر الحد الأدنى من التعاون والتنسيق بين العاملين من أبناء تلك الحركات، فكانت طبيعة العلاقة بينها غير صحية ولا ودية، بل تنافرية عنوانها الأبرز التباعد والتخاصم والتقوقع "الحزبي"، والانتماء الجماعي "والمشيخي".

ووفقا لوقائع أحوال تلك الحركات المتلاحقة، وصيرورة العمل الإسلامي، فإن فيروسات التباعد والتنافر والتشرذم غزت الجماعة الواحدة، وفرقت شمل الاتجاه الواحد، شهدنا ذلك في تشظيات إخوان سوريا المناطقية بثلاثيتها الدمشقية والحلبية والحموية، وهو ذات التشظي الذي أصاب إخوان الجزائر، وقريبا منه ما يجري في صفوف إخوان الأردن هذه الأيام.  

لم تكن تنظيمات "السلفية الجهادية" بعيدة عن المصير ذاته، فقد وقع الشقاق والنزاع والاقتتال بين جبهة النصرة (فرع القاعدة) بقيادة أبي محمد الجولاني، وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) بزعامة أبي بكر البغدادي، في معمعة الصراعات المحتدمة بينها على تمثيل "الجهادية العالمية".

حتى إن حزب التحرير المعروف بصرامته الفكرية والتنظيمية، لم ينجُ من داء التشظي والانشقاق، بعد انشقاق مجموعة من قياداته وأعضائه سنة 1997، كان من أبرزها محمد عبد الكريم أبو رامي (عضو مكتب الأمير ومعتمد الحزب في الأردن) والشيخ بكر الخوالدة (رئيس اللجنة الثقافية في الحزب)، على خلفيات فكرية أفضت إلى فصلهم من الحزب، وإطلاق وصف "الناكثين" عليهم.

فما هي أسباب تلك الاختلافات التي تجاوزت حالتها العلمية والمعرفية، لتتلبس بالصراعات "الوجودية" على الفكرة والقيادة؟ فإن كان هذا حال الدعوات الدينية والحركات الإسلامية، فما الذي يميزها في هذا المقام عن سائر الأحزاب "الدنيوية" الأخرى؟ وهل بالإمكان وقاية تلك الحركات من الانزلاق إلى الصراعات الفتّاكة التي تفضي إلى الفشل وذهاب القوة والريح؟ 

الحركات الإسلامية بين بشرية الأداء وسماوية الانتماء

من المتسالم عليه أن الحركات الإسلامية وإن كانت تحمل مبادئ الإسلام، وتستند إلى أصوله وقواعده العظام، إلا أنها تبقى حركة بشرية في أدائها، "تتلبس بما تتلبس به الأحزاب السياسية الأخرى من أعراض الضعف والفشل أحيانا"، وفقا لأستاذ الأخلاق السياسية ومقارنة الأديان في كلية قطر للدراسات الإسلامية، الدكتور محمد المختار الشنقيطي. 

يقتبس الشنقيطي في سياق تفسيره لظاهرة الاختلافات والصراعات داخل الحركات الإسلامية مقولة الفيلسوف الإسلامي علي عزت بيغوفيتش: "لا يمكن للدين أن يؤثر في الدنيا إلا إذا أصبح دنيويا"، فالتدين أو الفعل التعبدي، هو حاصل تفاعل بين السماء والأرض، أي بين الوحي السماوي والواقع الأرضي.

يتابع الشنقيطي حديثه لـ"عربي21" قائلا: "والحركات الإسلامية ليست حركات سماوية أو جمهرة من الملائكة، بل هي حركات أرضية متعلقة بالسماء، يصيبها ما يصيب الآخرين، فقد ارتد أحد المهاجرين إلى الحبشة عن الإسلام (عبيد الله بن جحش)، وانهزم المسلمون في غزوة أحد وولى بعضهم مدبرين، فليس الإسلاميون المعاصرون بأصدق في تعبدهم من المهاجرين الأولين". 

وبنظرة واقعية تحدث الشنقيطي عن تساقط بعض عناصر الحركات الإسلامية على الطريق، أو وقوع بعض قياداتها في أخطاء التقدير السياسي والعسكري، نافيا أن يكون ذلك مما يعاب عليها، ما دامت الحركة – في المجمل – متعلقة بالسماء، ساعية إلى رضا الله سبحانه، مجتهدة في إصلاح أخطائها، والتوبة من خطاياها.

وردا على سؤال حول مدى حضور التربية الإيمانية الأخلاقية في أوساط الحركات الإسلامية السياسية، قال الشنقيطي، إن "التربية الإيمانية والأخلاقية أساس ضروري لكل حركة إسلامية، لكن الحركات الإسلامية حركات إصلاحية تجديدية ذات رسالة اجتماعية، وليست هي بالجماعات الزهدية التي ينحصر تدينها في الخلاص الفردي والمتعة الروحية".

وما يميز الحركات الإسلامية – بالمعنى الاصطلاحي اليوم – وفقا للشنقيطي عن غيرها من الجماعات المتدينة الأخرى هو التركيز على الوظيفة الاجتماعية والسياسية للإسلام. ومع إقرار الشنقيطي بأن حركات الإصلاح والتجديد تحتاج أحيانا إلى من يصلحها ويجددها، فإن مشكلتها الكبرى ليست في نقص الالتزام الإيماني والأخلاقي، بل في ضعف الفاعلية العملية، ونقص الخبرة السياسية. 

الصراعات وغياب ثقافة الحوار 

من جانبه وفي سياق مقارب، رأى الكاتب والباحث الفلسطيني، أحمد أبو رتيمة أن تفاقم الخلافات داخل الحركات الإسلامية المفضية إلى الصراعات والتشرذم، نتيجة طبيعية لجو غير طبيعي غابت عنه ثقافة الحوار والتعددية، واحترام الاختلاف. 

وانتقد أبو رتيمة سلوك بعض الحركات الإسلامية، "المبالغ في حظر إظهار الخلاف علنيا، مع تقديس العمل السري، والحرص على ظهور الجماعة بمظهر الالتزام والانضباط"، مبينا أن ذلك السلوك "لم يحل المشكلة، إنما أخفاها وأعطاها مجالا للتراكم تحت السطح، فلما انفجرت كان انفجارها عنيفا. وهذا قانون طبيعي لأنه لم يكن ثمة متنفس في العلن لهذه الخلافات في المرحلة السابقة".

وجوابا عن سؤال "عربي21" حول مدى تأثير تلك الصراعات على جمهور تلك الحركات ومحبيها، أشار أبو ارتيمة إلى أن "الجمهور الواعي يدرك أن الخلافات داخل الجماعة الواحدة، ما دامت تلتزم بأخلاقيات الحوار والتعدد، فهي شهادة للجماعة وليست شهادة ضدها".

ويضيف أبو ارتيمة قائلا: "فعلى الحركة الإسلامية أن تنظر إلى ما يحصل باعتباره فرصة لتعديل مسار خاطئ، ذلك أن الحركة الإسلامية مشروع إصلاحي لقضايا الأمة، وهي ليست سرية الطابع حتى نبالغ في حظر الحديث العلني فيها، بل هو شأن عام يهم جمهورها ومتابعيها".

يخلص أبو ارتيمة إلى توجيه نصحه للحركات الإسلامية، بدعوتها إلى تجاوز حرجها تجاه الاختلافات الداخلية، وأن تضفي مزيدا من المرونة على أنظمتها الإدارية بحيث تستوعب كل الاجتهادات وكل وجهات النظر، وتنظمها في إطار ديمقراطي يضمن مناخا إيجايبا لتنافس البرامج". 

أسباب الصراعات وانعكاساتها وتأثيراتها

أرجع الباحث والداعية الأردني المتابع لشؤون الحركات الجهادية، أحمد أبو زيد أسباب الصراعات في أوساط السلفية الجهادية تحديدا إلى "الاختراق الأمني" من جانب، وفشو الجهل بين كثير من أتباع السلفية الجهادية من جانب آخر.

ولفت أبو زيد في حديثه لـ"عربي21" إلى أن أعدادا ممن انتسبوا للسلفية الجهادية، التحقوا بها مباشرة بعد إقلاعهم عن حياتهم السابقة "الزعرنة"، ولم ينالوا قسطا وافرا من العلم والتربية الإيمانية والأخلاقية، فلا يعرفون سبيلا للحوار إلا بالأساليب العنفية، واللجوء إلى القوة في تصفية الاختلافات والنزاعات.

من جهته حدد القيادي في جماعة الإخوان المسلمين في الأردن، جميل أبو بكر جملة أسباب، يأتي في مقدمتها: اختلاف الرؤى والبرامج، واختلاف آليات الإصلاح والتغيير، وتعدد الأسس والقواعد في فهم نصوص الشريعة (من القرآن والسنة)، وجمود الفكر والاجتهاد وضعف التجديد العام أمام تعقيدات الحياة ومستجداتها المتتابعة. 

وأكدّ القيادي الإخواني أن تدني كفاءة بعض القيادات وضعف قدراتها، وغياب الزعامات الجامعة، ذات الكاريزما الجاذبة والمؤثرة، والقادرة على احتواء سائر الاختلافات، يلعب دورا أساسيا في الصراعات والانشقاقات، إضافة لضعف التربية الإيمانية الأخلاقية، وصعود الإثنيات المختلفة مع عدم القدرة على استيعاب طبيعتها وشروطها.

وردا على اتهامات العلمانيين والليبراليين والقوميين للإسلاميين بأنهم عاجزون عن إدارة خلافاتهم الداخلية، فهم من باب أولى أعجز عن إقامة حوارات متينة، وعلاقات قوية مع مكونات المجمتع المختلفة، أوضح أبو بكر لـ"عربي21" أن الإسلاميين جزء من البشر يصيبهم ما يصيب سائر البشر، وقد سبقهم الآخرون في الفشل والتشظي والصراعات.   

ولفت أبو بكر إلى أن ثمة مبالغات عند الحديث عن أخطاء الإسلاميين، وتقييم تجاربهم، ومحاولة توظيفها لمحاصرة الفكرة الإسلامية ذاتها، وليس التنظيمات والحركات الإسلامية فقط، مقرا في الوقت نفسه بأن الصراعات الداخلية تركت ظلالها القاتمة في أوساط جمهور الحركات الإسلامية ومحبيها.

وخلص أبو بكر إلى القول بأنه من الصعب إلغاء ظاهرة الاختلافات التي تفضي أحيانا إلى الصراعات، داعيا القيادات والرموز المؤثرة للتقدم الجسور كي تكون صدارة المشهد، لاجتراح خيارات وحلول إبداعية في إدارة الخلافات الداخلية، مع ضرورة إشاعة ثقافة الحوار، وتعدد الرؤى، واحترام التنوع والاختلاف، مع تهيئة المناخات الإيجابية لتنافس الرؤى والبرامج في أجواء أخوية نظيفة وصادقة.