اقترفت
إيران في السنوات الأخيرة خطيئة مركبة تتمظهر عناصرها في ذات السياسات الإيرانية المتبعة في البلاد العربية التي يخترقها النفوذ الإيراني، فهي من ناحية وضعت نفسها في مواجهة الأمة بواسطة مشروعها الذي بدا مفارقًا للأمة، ومعبرًا عن طموح إيراني صرف متناقض مع شعارات "الثورة الإسلامية" في مرحلة البراءة الأولى عن الوحدة الإسلامية والتصدي للاستكبار العالمي والتلاحم مع المستضعفين في الأرض، ومحمولاً على ركيزة طائفية ينفذ بها إلى المجتمعات العربية معتمدًا في ذلك على إعادة توظيف الشيعة في البلاد العربية داخله، وبتعزيز الشعور الأقلوي لدى المجموعات الدينية والمذهبية بغرض التحالف معها وإعادة توظيفها أيضًا، مستثمرًا تراثًا عريضًا من المعاندة لأمريكا ودعم المقاومة في لبنان وفلسطين لتوفير الغطاء الأخلاقي لمقاصده الحقيقية، بما يجعل فلسطين والمقاومة في موضع امتهان دائم.
ستساهم هذه السياسات في تفتيت المجتمعات العربية، خاصة في ظروف التفكك والسيولة والفراغ كما هو حاصل من بعد الثورات العربية، كما ستضاعف من شعور الأمة بالقهر الذي سيجد في العنف والفوضى منافذ للتعبير عن زفراته التي يغترقها الغضب.
اتضاح هذه السياسات في ظروف الثورات العربية، واستخدام إيران أدوات بالغة العنف في سوريا بتحالفها مع النظام السوري، وبالغة الإذلال لأهل السنة في العراق، ومع تغول حزب الله على المشهد اللبناني بقوة السلاح، واندفاع الحوثيين للهيمنة على اليمن بقوة السلاح أيضًا، سيجعها من ناحية ثانية ركنًا في الثورة المضادة في العالم العربي إلى جانب الدول العربية المتهمة من طرف الدعاية الإيرانية بالتبعية لأمريكا والتفريط في القضية الفلسطينية.
في هذه الحالة يمكن فهم التأييد الغريزي الذي يبديه الملايين في هذه البلاد وغيرها لحملة السعودية وحلفائها على الحوثيين في اليمن، بما هي في إدراك هؤلاء الملايين حملة على إيران نفسها التي يجدونها عدوًا في سوريا والعراق ولبنان، خاصة مع وجود ارتياب تاريخي لدى سكان الخليج تجاه إيران، ومع تبلور وعي طائف غير مسبوق لدى أهل السنة ناجم عن هذه السياسات الإيرانية، بالرغم من أن أهل السنة يفتقرون تاريخيًا بحكم طبيعتهم إلى أي نمط من الوعي الطائفي بخلاف الشيعة الإمامية، باستثناء حالات نخبوية تتمثل في اتجاهات علمية أكثر ما تظهر اليوم في التجليات السلفية المعاصرة.
هذا التأييد الشعبوي للحملة، انعكس في اندفاع عدد من الرموز الإسلامية الثقافية والدعوية لتأييد الحملة على نحو يفتقد للاتزان اللازم في التعاطي مع هكذا أحداث كبرى وخطيرة، وإذا أمكن تفسير هذا الاندفاع بما سبق عرضه من سياسات إيرانية، وبنزعة الارتياب تجاه إيران والتي لا تخلو من حس طائفي لدى سكان الخليج، بما في ذلك رموزه الثقافية والدعوية، وإذا كانت "
عاصفة الحزم" فرصة لإثبات إسلاميي الخليج وطنيتهم بعدما عانوا من خطاب تخويني أفرزته حالة الاستقطاب التي أوجدتها السياسات الخليجية الرسمية المعادية للإسلاميين من بعد انقلاب عبد الفتاح السيسي، فإن التأييد المفرط باندفاعه تجاوز نخب إسلاميي الخليج وبلاد المواجهة المباشرة مع إيران، إلى غيرهم من النخب الإسلامية العربية.
من الواضح أن تفاؤلاً بالعهد الجديد في السعودية يخيل إلى تلك النخب إمكان التأثير على صانع القرار السعودي لتغيير اتجاهات تحالفاته نحو تركيا، ولتخفيف الضغط عن الإسلاميين، واتساقًا مع تموضعات تركيا وقطر والتي وطالما أنها في مواجهة إيران فإنها تنسجم مع توجهات تلك النخب نظرًا لاتفاق الإسلاميين عمومًا على تأييد الثورة السورية التي قصمت ظهر العلاقة مع إيران.
بيد أن تلك الأسباب كلها غير كافية لتبرير هذه الحماسة التي وصل بها الحد في بعض حالاتها إلى تصوير الحملة على الحوثيين وكأنها بداية تشكل لمحور سني/ عربي يبشر بإمكان تحقيق تطلعات الأمة في التحرر من التبعية الأمريكية والتصدي للتمدد الإيراني في المجال العربي، كما أن تلك الأسباب غير كافية للحديث وكأنه لا مشكلة في الأساس مع تلك الدول التي شكلت الركن الأول في الثورة المضادة التي اقترفت واحدة من أكبر جرائم التاريخ بانقلاب عبد الفتاح السيسي وما تبعه ما جرائم، حتى لو تقاطعت معها المصلحة جزئيًا في اليمن أو سوريا.
نعم؛ ثمة حديث عن تغير في السياسات السعودية مع الحكم الجديد الذي بدأ عهده بإخراج بعض صانعي السياسات المضادة للثورات العربية من دوائر الحكم أو الحد من نفوذهم، بيد أن هذه الإجراءات جاءت على إثر النتائج الكارثية لسياسات العهد السابق على مصالح السعودية، ونتيجة لاعتبارات تتعلق بترتيبات خاصة بالعائلة الحاكمة، ولا تنم أبدًا عن تحولات في الرؤية إلى الثورات العربية أو الإسلاميين، وبتعبير آخر فإن الصحوة السعودية لم تبلغ مرحلة الاستدارة الكاملة في معالجة الكوارث التي خلفها العهد السابق والتي كان منها إباحة مجال السعودية الحيوي في اليمن لإيران بترتيب مع دولة الإمارات.
من هذه الناحية؛ لا توجد مشكلة في محاولة البناء على تلك التغيرات سياسيًا، أو الاستفادة من الصراع القائم بين ركني الثورة المضادة (الإيراني/ العربي)، إلا أن هذا لا يتطلب من
المثقف أو الداعية التماهي مع الحكم الجديد، أو الانشغال بالدعاية له، أو المبالغة في تصوير الحملة ودوافعها ونتائجها وصولاً إلى مرحلة تضليل الجماهير، خاصة وأننا لسنا إزاء تغيرات جذرية في المواقع والسياسات الخليجية، على الأقل حتى الآن، وبالتالي، وطالما أن التغيرات لم تبلغ العمق المطلوب، وفي حال نجح تحالف "عاصفة الحزم"، وبالنظر إلى وجود الدول الأكثر عداء للثورات العربية والإسلاميين والمقاومة الفلسطينية في هذا التحالف، وبالذات مصر السيسي والإمارات، فإن الخشية قائمة من إمكان إعادة توظيف هذا النجاح في إطار الثورة المضادة، أو ضد المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة.