الاتفاق النووي مع
إيران لن يرسم وحده الخريطة الجديدة للشرق. ولن يكون وحده في قلب بناء النظام الإقليمي. مآل المواجهة المباشرة بين محوري
السعودية وإيران ستكون له كلمة فاعلة إن لم تكن كلمة راجحة. وستكون نتيجة الحرب في اليمن اليوم مؤشراً إلى مستقبل هذه المواجهة.
«عاصفة الحزم» وجهت ضربة موجعة إلى طهران، استهدفت مشروعها البديل من القنبلة. وما فاقم صدمتها أن الحدث سبق «تفاهم لوزان» الذي يؤسس لتجميد برنامجها النووي. توسلت هذا البرنامج رافعة لمد نفوذها وهيمنتها في طول المنطقة وعرضها، صارعت خصومها الإقليميين والدوليين خارج حدودها؛ في العراق وسوريا ولبنان وغزة واليمن، وساعدها «الربيع» الذي عصف بدول عربية في دعم قيام ميليشيات تشاركها العقيدة أو السياسة، وأوكلت إليها بعض حروبها بالوكالة هنا وهناك، وسرعان ما تحولت هذه الميليشيات «جيوشاً رديفة»، تنافس الجيوش الوطنية وتقاسمها القوة والسلطة.
واستعجلت إيران في خط آخر مواز، تطوير صناعتها الصاروخية، وباتت ترسانتها تغطي كل الشرق الأوسط والحدود الشرقية لأوروبا، وتهدد معظم القواعد الأمريكية والبريطانية والفرنسية في منطقة الخليج وشرق إفريقيا. هذه الصناعة وهذه «الميليشيات» شكلت عماد استراتيجية بديلة أعدتها الجمهورية الإسلامية إذا تعذر عليها دفع التخصيب إلى إنتاج قنبلة نووية؛ فهي تعرف أن هذا السلاح الذري في يدها أو في يد غيرها ليس للاستخدام بمقدار ما هو أداة ردع للخصوم، ونجحت في الإفادة المطلقة من سياسات الرئيس باراك أوباما، استغلت تركيزه على تجميد برنامجها النووي لتطلق العنان لأطماعها في الإقليم. لذا، اقتصرت مفاوضاتها مع الدول الست الكبرى وحوارها مع أمريكا على هذا البرنامج فقط.
وكان مســـؤولون عمانيون أكدوا، مع بدء السلـطـنة دوراً وسيطاً بين واشنطن وطهران قبل نيف وسنة، أن الحوار بينهما لا يتنـاول أي ملف بخلاف البرنامج النووي، وحـــرص المرشد علي خامنئي قبل أيام على التـــأكيد نفسه، أي إن الحوار مع أمريكا يتناول النووي «ولا نحاورها في أي موضوع آخر». وحذر من أن أي اتفاق «يجب ألا يستهدف أصدقاءنا في جبهة المقاومة»، وهـــدد السعودية دفاعاً عن «أنصار الله»، ولــم يكن الرئيس أوباما بعيداً من هذا الواقع حين قال إن «أي اتفاق نووي لن يســـوي الخلافات القائمة بيننا وبين إيران». تـــأكيد المرشد ليس الأول من نوعه؛ ما تريده طهـــران هو الحفاظ بأي ثمن على ما حققت من تـــقدم في الإقليم، وكانت تأمل بعد الإمساك باليمــن بأن تكمل بناء قوة الردع البديلة، مع اقتراب المفاوضات من اتفاق يحرمها من إنتاج قنبلتها النووية أقله في العقد المقبل. وكــثيراً ما هدد مسؤولون فيها، على وقع تقدم الحوثيين، باحتلال الخليج ومضيق هرمـــز وبحر العرب، وحرصت في السنوات الأخيرة ولا تزال على أن تكون لها غلبـــة فـــي الدور الإقليمي، وهو ما تحقق لهـــا عملياً منذ سيطرتها شبه الكاملة على القرار في بغداد التي سماها علي اليونسي، مســـتشار الرئيس حسن روحاني، «عاصمة» الامبراطورية الفارسية، وعزز هذه الغلبة حضورها في «العواصم الأربع»، أي بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء.
ومن راقب حركة الديبلوماسية الإيرانية أخيــراً، يدرك تماماً أن طهران لم تسكت ولن تسكـــت على «عاصفة الحزم». استحال عليها الـــرد العسكري المباشر على التحالف لأسباب كثـيرة أبرزها الخشية من انهيار المفاوضات النووية، والاعتراف الدولي الواسع بشرعية الرئيس عبد ربه منصور هادي وحكومته، وموجة التأييد والدعم اللذين حازتهما «العاصفة» إسلامياً و غــربياً وأمريكياً. لذلك، اعتمدت استراتيجية تفكـــيك هذا التحالف الذي تقوده السعودية، خــصوصاً على المستويين العربي والإسلامي؛ فجال ديبلوماسيوها على عــواصم عربية بعينها من الجزائر وتونس إلى بيروت وبغداد ومسقط، لعلها تدفع في اتجاه إحداث شرخ في الصف العربي الذي تحقق بحده الأدنى في قمة شرم الشيخ أخيراً، ورفعت في محادثاتها وخطابها شعار الدعوة إلى الحوار بين اليمنيين وإنجاز تسوية سياسية، كأنما تناست أن «العاصفة» كانت آخر الدواء بعدما أطاح «أنصارها» بكل ما حققه «مؤتمر الحوار» بين القوى اليمنية طوال سنة، ولم يرفعوا سوى البندقية في وجه شركائهم! أو كأنها تناست صيحات التهليل والتبجيل التي كانت ترفعها لشحذ عزيمة الحوثيين.
لكن إيران قد لا تعير دول الجامعة العربـية اهتمـــاماً كبيراً، ما دامت هذه تتســـاقط الواحدة منها بعد الأخرى، الأهم هو توجهها نحو
تركيا وباكستان، وهما شريكــان كبيران في العالم الإسلامي يرتبطان ارتباطاً مباشراً بمصالح وعلاقات واسعة مع العرب تتجاوز الجوانب الدينية والمذهبية، إلى المصالح التجارية والاقتصاية والتعاون الأمني والعسكري، لكنها هي أيضاً ترتبط معهما بمصالح وعلاقات لا تقل أهمية. مقاربة إيران لم تنجح حتى الآن، لكنها لم تفشل أيضاً؛ فباكستان التي أعلن برلمانها أنه يقف إلى جانب السعودية لكنه لا يوافق على المشاركة في «عاصفة الحزم»، لم تتخلّ عن الخليج الذي طالما ربطت أمنه بأمنها القومي. ولكن، لا يمكنها أن تذهب أبعد من ذلك. علاقاتها الثقافية والقبلية والاجتماعية بجارتها لا يمكن القفز فوقها. حدودها الجغرافية الطويلة معها لا تسمح بمواجهة حادة معها. إلى ذلك، كان لأبو القنبلة النووية
الباكستانية عبدالقدير خان دور كبير في بناء البرنامج النووي الإيراني. وأخطر من ذلك قدرة الواحدة منهما على زعزعة استقرار الأخرى، بتحريك الأقلية الشيعية في باكستان أو بتحريك الأقلية السنّية في إيران، على رغم التاريخ الطويل من التعاون والتنسيق، فقد كانتا حليفتين في أثناء الحرب الباردة، وارتبطتا بمعاهدة في أثناء «الشراكة» بين عبدالناصر ونهرو منتصف القرن الماضي، ووقفتا معاً بمواجهة الغزو السوفياتي لأفغانستان.
وهذا ما يفسر ربما التوجس الروسي اليوم من نجاح الحوار بين واشنطن وطهران، إذ لن يكون في مقدورها هي والصين مثلاً أن تستثمرا الصراع بين العاصمتين ورقة مساومة وابتزاز للولايات المتحدة. وهذا ما يفسر موقف موسكو ودورها في كبح توجهات أهل الخليج في مجلس الأمن، فهي تدرك جيداً أهمية الورقة الحوثية، لأنها مثل باقي الأوراق التي تملكها إيران في الإقليم، يمكن أن تعزز موقفها في أي مواجهة أو صفقة أو رسم خريطة للشرق الجديد، أو إطلاق مشاريع كبرى تتعلق بالطاقة.
أما تركيا التي يفضل «حزب العدالة والتنمية» تغليب مصالحها الاقتصادية على المسألة الأيديولوجية فمسألة أخرى، ما يفرق في السياسة بينها وبين إيران يتجاوزه كثيراً ما يقرب بينهما في المجالين الاقتصادي والتجاري. فالأولى كانت في السنوات الأخيرة تقف على خطين متوازيين متناقضين، لم تكن طهران تطمئن إلى سياستها في العراق ضد «رجلها» نوري المالكي، أو دعمها المعارضة والفصائل السورية المسلحة، وترددها في الانخراط مع التحالف الدولي - العربي وحربه على «الدولة الإسلامية». لكنها تتناسى أن «هجمتها» على الإقليم أيقظت مخاوف تركيا التي شعرت بأنها قد تخسر كل ما حققت في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى إذا واصلت جارتها تمددها في المنطقة.
لذلك، استضافت «الدرع» الأطلسية لتعزز قدراتها العسكرية موازنة مع مصالحها الاقتصادية في الإقليم، ولكسب مزيد من القدرات العسكرية. ورفع عصا الردع في وجه تمدد الجمهورية الإسلامية. ولكن، على رغم ذلك طغت الاتفاقات التجارية والاقتصادية والصناعية التي أبرمها رجب طيب أردوغان في طهران الأسبوع الماضي على الخلافات السياسية بين البلدين. ولكن، لا يستبعد أن يطور موقفه الداعم للتحالف الجديد، سيرهن ذلك بموقف هذا التكتل، أو على الأقل موقف دول الخليج من «الإخوان». فهو راقب بارتياح عودة «تجمع الإصلاح» (الإخواني) لاعباً فاعلاً في اليمن ومقبولاً خليجياً. ولا شك في أن أنقرة ستقترب أكثر من التحالف كلما اقترب هو أكثر من «المصالحة» مع «الجماعة».
إذا كانت القوى الإسلامية الكبرى في المنطقة تدرك أهمية الحوار حلاً لأزمة اليمن، وإذا كان قادة «العاصفة» يعرفون أن الغارات الجوية لن تحسم الحرب، وأن الحرب البرية ليست خياراً مطروحاً، وأن الهدف هو إضعاف الحوثيين وشريكهم الرئيس السابق علي عبدالله صالح لجرهم إلى الحوار مجدداً منزوعي الأسنان، لا يبقى سوى الرهان على دور باكستاني - تركي - عماني يدفع المتصارعين نحو قواسم مشتركة، تقدم رؤية مقبولة لتسوية سياسية في اليمن، وتشكل نموذجاً لبدء معالجة أزمات المنطقة. ما لم تتخلَّ طهران عن نزعتها التوسعية في دول الجوار العربي، لا يمكنها أن تطالب هذه الدول بوقف حربها لحماية أمنها الوطني والأمن القومي العربي. ولا يمكنها أن تراهن طويلاً على تفهم أو «حياد» باكستان أو تركيا اللتين عبرتا عن امتعاضهما من تدخل طهران في شؤون العالم العربي السنّي! «حيادهما» في الحرب على اليمن لا يعني حياداً حيال عودة «الإمبراطورية»!
(نقلا عن صحيفة الحياة اللندنية)