يقبع في عمق الصحراء الموريتانية، ويعد أبعد نقطة من العاصمة نواكشوط، ولا تزال جدرانه شاهدة على حقبة من تاريخ
موريتانيا، يصفه المؤرخون بسجن المعارضين ومنفى الزعماء وقلعة التعذيب، إنه سجن ولاته، الذي يبعد حوالي 1300 كلم شرق العاصمة نواكشوط.
فقبل 34 سنة أقدمت مجموعة من الضباط على تنفيذ انقلاب عسكري ضد مؤسس الدولة الموريتانية وأول رئيس للبلاد،
المختار ولد داداه، ولضمان نجاح الانقلاب الأول في البلاد، سارع العسكر لنقل الرجل إلى "القلعة" كما كانت تسمى حينها "أو سجن ولاته".
يقول مؤسس الدولة الموريتانية المختار ولد داداه في مذكراته واصفا "سجن ولاته": "إنه مغطى بصفائح عتيقة من الزنك تتراقص باستمرار تحت تأثير هبوب الرياح المطرد، محدثة صوتا مزعجا ومثيرا إلى حدٍ يُصم السامع أحيانا، وفي كل جهة من هذا المكان تعشعش أنواع من طيور الدوري، وقد تحمل الرياح في أثناء الليل كميات كبيرة من الرمال، تعرض من ينامون في العراء للدفن أحياء، وتجعلهم يكابدون المصاعب ليبعثوا من مرقدهم".
انتخب المختار ولد داداه، في 20 آب/ أغسطس من عام 1961 كأول رئيس لموريتانيا التي نالت استقلالها عن فرنسا عام 1960، وأعيد انتخابه ثلاث مرات في سنوات 1966 و1971 و1976، قبل أن يطيح به الجيش في 10 تموز/ يوليو 1978، وأمضى جل حياته بعد هذا الانقلاب العسكري في فرنسا، وتوفي عام 2003.
يقول ولد داداه في مذكراته إن ظروف "سجن ولاته" هي أسوأ ظروف سجن موريتاني، مضيفا أنه يتذكر في يوم من الأيام أنه استيقظ صباحا وقد ابتلعت الرمال نصف جسده، متحدثا عن معاملة قاسية لنزلاء هذا السجن.
زنزانة الزعماء صادمة
ورغم الخراب الذي حل بالسجن التاريخي، والتصدع الحاصل في أغلب جدرانه وغرفه، فلا تزال الزنزانة التي سجن فيها الرئيس الراحل المختار ولد داداه، وقادة سياسيون آخرون من بعده، عصية على عوامل الطبيعة المتقلبة في تلك القلعة الواقعة بعمق صحراء شديدة الحر صيفا، شديدة البرد شتاء، فجدران هذه الزنزانة لا تزال كما وصفها المختار ولد داداه، وطيور الصحراء التي تحدث عنها أيضا لا تزال تعشق المكان، بل ازدادت عشقا له بعدما تحول السجن لمكان مهجور.
تحكي "زنزانة الزعماء" كما يفضل البعض أن يسميها، قصص
معتقلين سياسيين، وذكريات زعماء، وحقبة من تاريخ بلد "تعود الانقلابات وحكم العسكر منذ تأسيسه وحتى اليوم"، حسبما يعلق الشيخ ولد محمد، من سكان مدينة ولاته لـ"عربي21".
قصص من معاناة السجناء
عام 1986 كان "سجن ولاته" على موعد من جديد مع المعتقلين السياسيين، بعدما اتهم العقيد معاوية ولد الطايع ضباطا وسياسيين زنوجاً، بالتخطيط لمحاولة قلب نظام الحكم، حيث أقدم ولد الطايع، الذي وصل إلى السلطة بانقلاب عسكري أيضا عام 1984، على إعدام عشرات الضباب الزنوج، فيما تم نقل عشرات آخرين "لسجن ولاته"، وفق ما يقول "بوي ألسان هارونا" مؤلف كتاب "كنت في ولاته".
أما السجين السابق في المكان ذاته، صار إبراهيم، فيقول، إن المعاناة التي عاشها السجناء الزنوج بهذا السجن لا توصف.
ويضيف في مقابلة مع صحيفة "السراج": "رغم كوني صحفيا وكاتبا لم أتمكن من تناول القلم من أجل سرد تلك الوقائع.. ربما أتمكن - مع الزمن - من تذكر تلك الشاحنة الجرارة التي تم شحننا فيها، كقطيع من الماشية لقطع المسافة بين نواكشوط والنعمة وولاته على سطح الحوض مباشرة، ربما سأتمكن من تذكر أغلال الحديد في أقدامنا ونحن نسير على الهضبة المؤدية من القلعة إلى قرية ولاته، حاملين حاويات الماء تحت شمس تتجاوز حرارتها 40 مئوية، وخناجر البنادق في ظهورنا، ربما أتمكن من تذكر مشهد "تن يوسف غي" و"عبد القدوس باوبا" يحتضرون قبل موتهم من جراء سوء التغذية وسوء المعاملة، أو الأستاذ إبراهيم أبو صال وهو يتعرض للضرب حتى سالت دماؤه".
تهم للأنظمة العسكرية
ويقول الكاتب والباحث الموريتاني، أحمد ولد الندى، إن الأنظمة العسكرية المتعاقبة على موريتانيا تسببت في تشويه هذه المنطقة التاريخية، فتحولت من منطقة إشعاع علمي وتاريخي، إلى منصة للسجون السياسية، مضيفا أن سجناء كثرا دفنوا في ظروف غامضة أسفل هضبة السجن، في ثمانينيات القرن الماضي.
وأضاف ولد الندى، في حديث لـ"عربي21"، أن تاريخ السجن سيئ الصيت، شوه بشكل كبير الدور التاريخي الذي أداه سكان منطقة "ولاته" في مقاومة الاستعمار، وفي نشر العلم في عموم موريتانيا ومنطقة الصحراء الكبرى، حيث اشتهرت المنطقة بعلمائها وكتاتيبها العلمية.
ورأى ولد الندى أن "سجن ولاته" تحول بالفعل إلى سجن لقتل المناضلين والسياسيين والزعماء، تحت سياط التعذيب أو تغييبهم في عمق الصحراء لفترات طويلة.