عوامل كثيرة أدت إلى تفاقم الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط والمنطقة العربية على وجه الخصوص بالصورة الفظيعة التي نراها اليوم، والتي تنذر بعواقب وخيمة على وحدة واستقرار بعض بلدانها وتؤسس لواقع جديد قائم على صراع طائفي وعرقي مرير قد يمتد لسنوات طويلة.
وفي حال تكريس هذا الواقع الطائفي والعرقي وترسيخه في المجتمع، ستتقطع أواصر العلاقات الوطنية والدينية والاجتماعية بين مكوناته المتنوعة، وتحل مكانها علاقة الكره والفرقة والتناحر، تمهيدًا للتفكك والانفصال وإقامة «كانتونات» طائفية وعرقية مستقلة، هذا ما يجري الإعداد له في العراق وسوريا واليمن.
التغييرات المجتمعية الكبيرة والثورات «الربيعية» التي أعقبت إحراق التونسي «محمد البوعزيزي» نفسه في عام 2010، احتجاجًا على استبداد الحكومة وأوضاع الفقر والبطالة والتهميش السائدة في البلاد، لم تشمل العالم، بل شملت الدول العربية التي جاءت أنظمتها عبر الانقلابات العسكرية، مثل
مصر وليبيا وتونس وسوريا وأخيرًا اليمن، وأنظمة هذه الدول لها سجل حافل بالإجرام والقمع المنظم ضد شعوبها، واللافت أن هذا السيناريو «الثوري» لم يشمل منطقة الخليج العربي، إما بسبب ثبات أنظمة الحكم فيها و«تجربتها السياسية والاجتماعية الفريدة التي بلغت شأنًا رفيعًا في بناء الإنسان وتطوير المجتمع» على حد قول الكاتب محمد الرميحي، أو بسبب الرفاهية الاقتصادية والمعيشية «والنهضة المجتمعية» التي يعيش فيها أهلها، والعدالة في توزيع موارد الدولة على المواطنين، قد تكون حادثة «البوعزيزي» القشة التي قصمت ظهر البعير وفجرت الأوضاع بصورة مفاجئة، ولكن لم تكن المفجر الأساسي والعامل الرئيس في تأزيم الأمور، بل ثمة عوامل أخرى مهمة هي التي دفعت بالجماهير العربية في تلك البلدان إلى التمرد على النظام القائم وتحدي الخوف والإصرار على التغيير.
فبالإضافة إلى فساد تلك الأنظمة البوليسية وقمعها للحريات وتجاهلها لطموحات ومعاناة المواطنين، وخاصة الشباب والبسطاء منهم وسوء الأحوال المعيشية، وعدم وجود العدالة الاجتماعية، فإن العامل الأهم الذي دفع بالجماهير إلى تحدي الخوف والخروج إلى الشوارع للمرة الأولى حسب اعتقادي، هو شعورها الشديد بالاغتراب والعزلة في مجتمعها وعدم مواكبتها للتطورات والتغييرات السريعة التي تطرأ على العالم الرحب، الذي تحول إلى سجن ضيق بفضل القائد الضرورة وحزبه الفاشي.
ولكن عند أول هبة لتلك الجماهير الغاضبة، تكسرت القيود والأغلال وتهاوت الأنظمة ومؤسساتها القمعية بسرعة قياسية، وتبين أن هذه الأنظمة التي طالما أظهرت نفسها على أنها قوية لا تقهر، كانت هشة وضعيفة وأوهن من بيت العنكبوت، وفجأة وجد السجين حرًا طليقًا، وقويًا بما فيه الكفاية ليهرب من الطغاة الذين ساموه سوء العذاب لفترة طويلة، أراد أن ينظم نفسه ويخرج إلى الحياة بصورتها المعاصرة ويمارس الديمقراطية، ولكنه نسي أن الديمقراطية ليست مجرد مبادئ ومفاهيم جاهزة تستل من الكتب أو تستورد من الخارج، بل هي علم ودراية وتجربة طويلة، تحتاج إلى فترة زمنية لممارستها وتطبيقها، فانتشرت الفوضى في أرجاء تلك الدول وبدأت العقد النفسية الطويلة التي تشكلت تحت وطأة القمع الحكومي المتواصل بالظهور إلى السطح، وفعلت فعلها في تعكير الجو العام للمجتمع ونشوب صراعات وتناحرات طائفية، كما في ليبيا وسوريا واليمن، وما زاد الطين بلة وعقد الأمور أكثر في بعض تلك البلدان، أن إيران وجدت في الفوضى العارمة التي عصفت بهذه الدول فرصتها للتدخل في شؤونها وتعقيد أوضاعها أكثر، فلولا تدخلها السافر في
سوريا ووقوفها بجانب نظامها المجرم ضد الشعب السوري وتطلعاته المشروعة في إقامة حكومة وطنية، تحترم كرامته وتراعي حقوقه، لما تفاقمت الحالة المأساوية هناك، والأمر نفسه ينطبق على«اليمن» الذي دشن عهدًا جديدًا بعد سقوط حكم «علي عبدالله صالح»، ولكن تدخل إيران فيه عبر دعمها ومساندتها ميليشيات «الحوثي»، دمر البلاد ووضعها على أعتاب مرحلة مظلمة.