مع اقتراب الذكرى الثانية للانقلاب العسكري في
مصر في الثالث من تموز/ يوليو 2013، برزت مجددا دعوات إلى الإصطفاف الثوري لاسقاط هذا الانقلاب، والمشكلة أن دعوات الإصطفاف تظهر ثم تخبو دون أن تحقق شيئا ملموسا، رغم أن جميع القوى الثورية من يسارها إلى يمينها إلى إسلامييها ومستقليها تكتوي الآن بنار الانقلاب وقمعه.
من الواضح أن الكثير من القوى الثورية (الليبرالية واليسارية) لم تستطع بعد تجاوز مرارات الماضي، ولم تستطع أن تتجاوز حالة الاستقطاب التي صنعتها الدولة العميقة تمهيدا للانقضاض على
ثورة كانون الثاني/ يناير في الانقلاب لاحقا، كما أن بعض هذه القوى لايزال يحمل عداء للإخوان أكثر من حبه للثورة ولمصر نفسها.
أستغرب لاستمرار حالة العداء بين قوى تنتمي للثورة، وهناك من القضايا التي تجمعها أكثر من تلك التي تفرقها، إذ يكفي اجتماعها على استعادة الثورة، ومبادئها من عيش وحرية وعدالة إجتماعية وكرامة إنسانية، ويكفي إجتماعها على إستعادة المسار الديمقراطي الذي نعمت به مصر بعد الثورة، ومارس أهلها حقهم في التصويت والتعبير والتظاهر بدون أي عوائق لأول مرة في تاريخهم الحديث، خلافا لما يحدث حاليا من قمع وتزييف لإرادة المصريين ودفعهم للتظاهر سرا في الصحراء بعد منعهم علنا من الميادين.
أستغرب أيضا أن قوى مدنية ليبرالية ويسارية كانت تقف كتفا بكتف مع القوى الإسلامية في ميدان التحرير وغيره من الميادين، وإختلطت دماؤها بدماء هؤلاء الإسلاميين في ساحات الثورة، ثم وقع الإختلاف لاحقا ووصل إلى حد نزول بعض هذه القوى المدنية في 30 حزيران/ يونيو جنبا إلى جنب مع بقايا نظام مبارك والدولة العميقة ورجال الشرطة انتقاما من الإسلاميين ثم تبين لبعض هذه القوى لاحقا خطيئتها، وجنايتها على الثورة ومبادئها وشهدائها ثم هي لاتزال متصلبة مصرة على عدائها للتيار الإسلامي الذي واصل العطاء الثوري وواصل تقديم الشهداء على طريق استرداد الثورة، والمسار الديمقراطي الذي انتجته.
ما ألاحظه أن دعوات الإصطفاف الثوري تنطلق أكثر من القوى الإسلامية ، وتنتظر ردا من القوى الليبرالية واليسارية الثورية، ثم يأتي الرد المباشر أحيانا وغير المباشر في كثير من الأحيان أن على الإسلاميين وخاصة
الإخوان المسلمين الرجوع خطوة إلى الوراء، وعدم تصدر المشهد الثوري، والحجة في ذلك أن الغرب والعرب لايرتاحون لصدارة الإخوان، وأن قوى ثورية ستظل معطلة بسبب ذلك، لم يتأخر رد الإخوان على هذا المطلب إذ أجابوا بأنهم مستعدون للرجوع خطوتين وليس خطوة واحدة على أن يملأ الأخرون هذا الفراغ حتى لا تملأه الثورة المضادة بمزيد من التمدد.
نظل نلف وندور حول ما يمكن وصفه بـ "معضلة الإخوان" في الاصطفاف الثوري، وما لمسته من حوارات ولقاءات مع الكثيرين أنهم ليس لديهم تصور لما يعنونه بالرجوع خطوة أو خطوات للخلف، وليس لديهم تصور لمل هذه الفراغ، ربما أجدني شخصيا موافق على فكرة عدم تصدر الإخوان للمشهد الثوري حتى وإن غضب مني البعض، وأرى بالفعل ضرورة بناء جبهة ثورية شاملة تعيد صورة الاصطفاف الثوري في 25 كانون الثاني/ يناير، وحتى يمكن لهذه الجبهة الثورية الشاملة ان تقدم بديلا مقنعا للجميع عن سلطة الانقلاب الحاكمة حاليا، وليعلم الجميع أن هناك تحركات شرقا وغربا بالفعل لصناعة بديل للسيسي بعد إدراك حلفائه وداعميه في الداخل والخارج لعدم قدرته على الصمود أو تحقيق أي نجاح، وبالتالي فمن المهم أن لايترك أبناء الثورة المجال لغيرهم لصناعة بديل، بل عليهم أن يبادروا هم لتقديم هذا البديل المقنع الذي يعكس الارادة الشعبية المصرية الحقيقية ممثلة في تياراتها المتنوعة وليس الذي يهيمن عليه فصيل ايا كان إسلامي او ليبرالي.
ومع دعوتي لعدم هيمنة أي فريق فإنني أحذر أيضا من دعاوي استبعاد الإخوان بحجة جذب قوى ثورية أخرى غابت عن المشهد، أو بحجة إقناع المجتمع الدولي بدعم هذا الاصطفاف، ذلك ان تغييب الإخوان عن أي عمل جبهوي يفقده فاعليته في الداخل والخارج، فإذا كان الإخوان غير قادرين بمفردهم على حسم المعركة مع الإنقلاب، فمن المؤكد أن غيرهم وبدونهم لن يكون قادرا على تحقيق اي شيء، والصحيح هو إجتماع الجميع في عمل ثوري مشترك، ولنا في تجارب سابقة قبل ثورة يناير عبرة، فعندما تأسست حركة كفاية ظل أداؤها ضعيفا حتى انضم إليها الإخوان رسميا، وحين دعت الجمعية الوطنية للتغيير بقيادة محمد البرادعي لحملة مليون توقيع للاصلاح لم تنجح الحملة إلا بانضمام الإخوان إليها، حيث تمكن الموقع الرسمي للجمعية الوطنية من جمع حوالي 200 ألف توقيع بينما أطلق الإخوان حملة للتوقيعات بقيادة المرشد د. محمد بديع وأعضاء مكتب الإرشاد جمعت 850 ألف توقيع في ظرف أسبوعين فقط، وألأهم من ذلك كله لا ننسى أن انضمام الإخوان للثورة بشكل مكثف في 28 كانون الثاني/ يناير هو الذي ساعد في دخول ميدان التحرير والاعتصام به، وأن وجودهم يوم 4 شباط/ فبراير في الميدان هو الذي حمى الثورة في معركة الجمل، وبالتالي فإن أي تفكير في استبعادهم من أي عمل جبهوي سيكون عملا مضادا للثورة نفسها وخصما منها.
أدرك أن تجارب الاصطفاف السابقة عقب الانقلاب لم تكن محل إجماع القوى الثورية بتنوعاتها، وأدرك أن بعضها صنع على عجل بدافع مواكبة الحراك الميداني، وكان هذا الإستعجال سببا لشكوى البعض، وبالتالي فإن هذا البعض يطالب الآن بالتروي في أي خطوة للاصطفاف الثوري حتى تنضج تماما، هذا كلام جميل من الناحية المنطقية لكن هناك واقعا يدفعنا إلى تسريع خطواتنا لوقف النزيف في مصر، واقصد نزيف الدماء ونزيف الثروات والمقدرات الوطنية، ووقف تمدد مشروع الانقلاب وتجذره، ونحن على أعتاب الذكرى الثانية لوقوعه.
حين نتحدث عن اصطفاف ثوري حقيقي ينبغي أن يتمتع الجميع بالشجاعة للإعتراف بالأخطاء في الفترة الماضية والتي لم تكن مقتصرة على فريق دون آخر، ومن ثم تجاوز هذه الأخطاء والمرارات لما هو أهم وهو استرداد الثورة، والاتفاق على خطة عمل لإسقاط الانقلاب ومن ثم خارطة طريق لما بعد ذلك، تقوم على فكرة التشاركية السياسية الحقيقية التي لاتعتمد على أوزان نسبية للقوى المختلفة، بل تقترب من صيغة الجمعية العامة للأمم المتحدة التي تمثل العالم بصوت لكل دولة صغيرة أم كبيرة.
أثق أننا إذا أقررنا بأخطائنا جميعا ونظرنا للمستقبل فإننا قادرون على بناء اصطفاف ثوري حقيقي وصياغة وثيقة مبادي شرف للقوى الثورية وأيضا صياغة خطة عمل مشتركة لإنهاء حكم العسكر
أعرف أن هناك وثائق كثيرة كتبت أو تكتب الآن من بعض الكيانات والأفراد، ولاضير في تجميع كل هذه الوثائق للخروج منها بوثيقة موحدة تعبر عن الثورة، ومبادئها، وترسم خارطة طريق لإسقاط حكم العسكر وبناء دولة مدنية حديثة، ويوم نفعل ذلك نكون قد أقتربنا فعلا من تحقيق الحلم الكبير وهو اسقاط الانقلاب واسترداد الثورة.