دعوني أؤكد بداية أن الكاتب
الفرانكوفوني الجزائري كمال داود، كاتب موهوب، وإن كنت أختلف معه في بعض القضايا فإنني دافعت وسأدافع عن حقه في التعبير الحر.
وقد دافعت عنه في قضية الدعوة المغرضة لهدر دمه في الجزائر من قبل "المكلف بمهمة" المتشيخ حمداش، الذي لا تستفزه قضايا النهب والفساد والغاز الصخري، إنما يتحرك بمهماز في قضايا "الغاز الخصري"! الذي قدم في النهاية خدمة دعائية للكاتب!
لقد تمنيت من كل قلبي أن يفوز داود بجائز الغونكور الفرنسية الكبرى، وسعدت بأنه فاز مؤخرا بجائزة الغونكور لأول رواية عن روايته المتميزة "ميرس وتحقيق مضاد".
وبمناسبة فوزه بهذه الجائزة، أجرى داود سلسلة من الحوارات مع صحف وقنوات فرنسية من بينها فرانس 24 بالفرنسية. لم أتابع الحوار إلا لاحقا بعد ملاحظة لافتة فعلا على صفحة فيسبوك الخاصة بالزميلة نصيرة
بن علي الكاتبة والصحفية الجزائرية المقيمة بايطاليا (طبيبة الأسنان تكوينا، التي تكتب أساسا بالفرنسية وكذلك بالإيطالية وبالعربية وتتحدث بالأخيرة بطلاقة وسلاسة لافتة)، التي كتبت: "صباح الخير لكل أصدقائي الذين اختاروا الغربة أوالمنفى طواعية أو بغير إرادة.. نحن الذين (ماتت أرواحهم) بحسب كمال داود.. روحي الحية تحييك.. تشاو أيها الجميل!".
ولأنني قبل إصدار الحكم، أحب دائما التدقيق في الأشياء، استفسرت الزميلة نصيرة حول الموضوع، أنا المعني بالأمر باعتباري أحد هؤلاء الذين اختاروا الغربة طواعية، فأشارت الزميلة إلى حوار "فرانس 24".
ولأن "غوغل" العظيم يجد لك الإبرة في قش النت، فمن نَقرة بحث واحدة وجدت رابط حوار "الجميل" كمال داود مع مستضيفه الصحافي الصهيوني الملتزم سيلفان أتال. لن أبالغ لوقلت إنني "تفاجأت" مما جاء في جواب داود ردا على سؤال محاوره: لماذا لم يغادر الجزائر بعد "فتوى حمداش"؟ كمال داود يقول إنها اشكالية المثقف العربي والجزائري وإنه لا يريد مغادرة الجزائر لأن ذلك سيؤدي إلى "موت أوفقدان روحه".
ما يعني بحسب كلامه أن المثقفين العرب والجزائريين (وأنا أزعم أنني أحدهم!) الذين تركوا بلدانهم بارداة وبغير إرادة "فقدوا أرواحهم"!
لحسن الحظ أنه لم يقل أنهم باعوها مثلما هو الحال في مسرحية "فاوست" للكاتب الألماني غوته! وجب أن أقول هنا وبعيدا عن أي مزايدات أنني غادرت الجزائر في صيف 1999، أي بعد وصول بوتفليقة إلى الحكم، أي أنني كنت في الجزائر طوال سنوات الجمر في 90 آت القرن الماضي، وكنت في ذروة سنوات الدم والدموع منخرط في نشاط ثقافي أسبوعي بقسنطينة ضمن فرع اتحاد الكتاب الجزائريين، وأعد وأقدم حصة ثقافية في اذاعة قسنطينة، وقد فقدت أصدقاء وزملاء أعزاء برصاص الغدر الإرهابي: رضا أخي وصديق طفولتي الشرطي، وصديقي وأخي الأكبر الكاتب والمفكر المتميز بختي بن عودة، و3 زملاء في الصحيفة ذاتها التي كنت أدير مكتبها في قسنطينة وهي أسبوعية "الشروق": خديجة دحماني، ومليكة صابور، ومقران حموي.
لن أدَّعي بطولة، وأزعم أنني كنت فاتحا صدري متحديا رصاص الإرهاب في تلك السنوات الدموية، كنت حذرا جدا ليس فقط كباقي الزملاء الصحافيين، إنما ككل مواطن جزائري حينها في تنقلاتي، وأجد "مدهشا" صراحة ما ذكره كمال داود لصحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية أنه "فيما كان الصحفيون في الجزائر يشكون من الخطر الذي يواجههم من المتمردين (وصف الصحيفة) الإسلاميين، فإن كمال داود، الصحفي في صحيفة "لوكوتيديان دورون" الجزائرية الناطقة بالفرنسية منذ 1996، أجرَ حمارا وذهب لمحاورتهم في الجبل!".
لن أبالغ لوقلت إنني شعرت وأنا اسمتع لما قاله داودوفي "فرانس 24" (مثل الكاتبة نصيرة بن علي وآخرين ربما) وكأن كمال داود أطلق النار على "روحي الحية!" مثلما فعل "ميرسو" (بطل روايته المرادف) والقاتل ـ البطل في رواية "الغريب" لألبير كامو!
ولكن ربما بخلاف نصيرة بن علي (التي تكتب أساسا بالفرنسية) فككاتب يكتب أساسا باللغة العربية، وأنا أفضل هكذا توصيف على الكاتب المعرب، بمالها من إحالة عن واحدية اللغة، لأنني "رباعي اللغة" (إن صح التعبير)، وكان يمكن أن أكتب بالفرنسية وقد فعلت ذلك في بداياتي، وبفضل إقامتي ودراستي في لندن صار بمقدوري الكتابة بالانجليزية كذلك، فقد شعرت بأن "ميرسو"، عفوا كمال داود "أطلق النار" عليَّ للمرة الثانية عن "سبق إصرار وترصد" بعد "طلقته الأولى" وهو يرد على سؤال لموقع قناة "الجزيرة" ـوقد كرر نفس الكلام لصحيفة "الوطن" وصحف أخرى بالفرنسية والإنجليزيةـ :"قلت لصحيفة "لوفيغارو" الباريسية إنكَ اخترت الفرنسية لغة كتابة لأنها لغة حرية، هل هذا يعني قصور الكتابة بالعربية عن تلمس الجوانب الإبداعية؟".
داود يجيب بمنطق فرانكفوني استعلائي غريب أن من يكتبون باللغة العربية هم في غالبيتهم بما معناه "أصوليون"! حيث يقول"المشكلة بالنسبة للعربية خاصة في الجزائر هي أنها لغة عليها وزن المقدس والدين، لم نعد نفرق بين الدين واللغة، في أي بلد عربي يمكن أن تجد معربين لائكيين أوملحدين، لكن ذلك أمر نادر في الجزائر، قلما تجد كاتبا بعيدا عن الدين وهومعرب ..في جلسة جمعتني مؤخرا مع الكاتب المصري علاء الأسواني قال لي إنه وجد أكثر الكتاب المعربين في الجزائر يتبنون الفكر الديني المحافظ، وهوما يأسر منطق الرواية المعربة بالجزائر ولم تستطع أن تتحرر وتتطور بسبب ثقل المقدس عليها"!
وأنا (أعوذ بالله من كلمة أنا!) صراحة الكاتب الذي يزعم أنه علماني (أصر على علماني غير معاد للدين وليس لائكياً!) وديمقراطي غير استئصالي أستغرب هذا الموقف من كمال داود (الإسلامي السابق التائب من الأصولية!)، والأدهى أنه يستعين بالكاتب المصري علاء الأسواني في إعطاء ما أسميه صكوك الكُفران (على وزن صكوك الغفران الكنسية!) للجزائريين الذين يكتبون بالعربية (قلة منهم فقط لا يتبنون الفكر الديني المحافظ، كما قال !!).. وهذا حكم تعميمي وإقصائي وغير مطلع حتى لا أقول جاهل، ثم أن تكون قريبا من الدين لا يعني انك بالضرورة لست كاتبا جيدا!
فمن أكبر كتاب فرنسا مثلا فرانسوا مورياك الحائز علي جائزة نوبل، الذي فاز كمال داود نفسه بجائزة باسمه، معروف أنه كان كاثوليكيا متدينا جداً! وحتى ربطا بالعربية والاسلام فربما غفل أوتغافل كمال داود أن شيوخ دين بارزين في تاريخ الثقافة العربية كتبوا أروع النصوص الأدبية في الغزل والايروتيكا مثل الشيخ النفزاوي وروضه العاطر!
وحتى في الأدب الجزائري المعاصر المكتوب بالعربية نماذج عديدة سبقت وتفوق نصوص كمال داود جرأة في مسائلة الدين والجنس وغيرها من الطابوهات، إذا كان هذا هومعيار قيمة العمل الأدبي!
كمال داود (الإسلامي السابق التائب، إمام قريته السابق!) محق عند طرح إشكالية "الديني" في الحوار مع فرانس 24، لكن هل هذه الاشكالية تخص فقط الجزائر وهذا العالم "المسمى عربيا" كما يسميه داود، الذي يتقاطع (وأن لا يتفق بالضرورة!) مع محاورهِ الإعلامي الصهيوني، الذي يتحدث عن هذا "الديني المسمم"؟!
ولكن أليست الإشكالية الدينية الأصولية أكثر تعقيدا، ولا تخص فقط العرب والمسلمين، بل اليهود والمسيحيين والهندوس والبوذيين وواصحاب أديان أخرى. ولنأخذ محاوره اليهودي الصهيوني، نموذجا هوالذي ربما مثل الغالبية من الصهاينة "الملحدين ولكنهم يعتقدون بأن الله وعدهم كيهود في فلسطين!" مثلما يقول المؤرخ الإسرائيلي المعروف إيان بابي!
الفالت (وليس اللافت!) في حوار فرانس 24 أن المُحاور سيلفان اتال، الذي عبر عن إعجابه حد "الانضراب" بمقالات كمال داود (قد تكون مقالته "لهذا لا اتضامن مع فلسطن!" في ذروة العدوان الصهيوني الأخير على غزة إحداها، وهي مقالة لا تليق، ولا تشرف في اعتقادي كمال داود الكاتب الانساني، وهي أقرب في رأيي الى حق (إنساني!) اُريد به باطل! وإن كنت لا أتفق مع من يرى أن هذا "الباطل" هو إرضاء الدوائر الصهيونية (خاصة الإعلامية والأدبية) في فرنسا لغرض مرتبط بتسويق و"تبريق" روايته، التي أرى أنها عمل أدبي متميز يستحق كل النجاح والجوائز، التي حظيت به.
ما يجب أن اشير اليه في الأخير أن محاور فرانس 24 سيلفان أتال يسأل (بسفالة!): كمال داود إنك في اشتغالك ونقدك للظاهرة الأصولية تقول إن الجزائريين والعرب عموما يبحثون عن كباش فداء لسفالاتهم (هكذا نعم وبهذا التعبير!). داود يجيب: "أنا أدافع عن نفسي!".