اقتضت الخطة المعدة من قبل الحليفين:
الحوثي وصالح -بالتنسيق مع حلفائهما في الإقليم- تسليم عاصمة البلد ذات الأهمية السيادية والمعنوية، بما تضم من مؤسسات مدنية وعسكرية واستخبارية من قبل الموالين للرئيس السابق صالح للحوثيين.
وقد أراد اللاعب الأساسي، صالح، أن يضع الحوثيين واجهة يتوارى خلفها؛ لأنه مجبرٌ -ولو بشكل مؤقت وتكتيكي- على إخفاء تحالفه ودوره، تجنباً للضغوط والاحتجاجات المحلية والإقليمية والدولية، باعتباره طرفا في اتفاقات التسوية لانتقال السلطة، وفي المقدمة منها اتفاق المبادرة الخليجية وآليته التنفيذية وقرارات مجلس الأمن ذات العلاقة.
إنها استراتيجية للعودة إلى السلطة من خلال نجله أحمد، قائد الحرس الجمهوري السابق، الذي أريد له أن يكون المخلِّص للشعب
اليمني من معاناته ومن يستطيع إعادة الأمن والاستقرار، عبر الدعوة إلى إجراء انتخابات رئاسية مبكرة في لحظات انفلات أمني وفراغ سياسي. وهذا ما يتأكد من خلال الحملة الدعائية لمرشح المؤتمر الشعبي العام، أحمد علي عبد الله صالح، أثناء الإقامة الجبرية للرئيس الانتقالي عبد ربه منصور هادي في صنعاء، وبعد هروبه إلى مدينة عدن.
وبالمقابل، نجد حليفه الحوثي الذي أعد استراتيجيته الخاصة لتسلم مدينة صنعاء، من حيث التوقيت وأماكن دخولها، وأن يتم ذلك بالتأكيد عبر ثورة مضادة لثورة 26 أيلول/ سبتمبر 1962، حيث إننا نجد دخول المليشيات باتجاه مدينة صنعاء قد تم من منطقة همدان التي خرج منها الإمام البدر آخر إمام زيدي.
أما التوقيت، فقد كان يأمل يتم يوم 26 أيلول/ سبتمبر 2014، حيث حاول الحوثيون تمديد فترة المفاوضات من خلال دعوة المتفاوضين بمن فيهم المبعوث الدولي جمال بنعمر إلى صعدة، لكن الحوثي لم يتمكن من التمديد حتى 26 أيلول/ سبتمبر، بسبب الضغط الداخلي والإقليمي والدولي، فكان دخول صنعاء يوم 21 أيلول/ سبتمبر، عندما كانت الأطراف تنتظر الوفد الحوثي ليصل إلى صنعاء للتوقيع على اتفاق السلم والشراكة، علاوة على اتخاذ القصر الجمهوري وليس دار الرئاسة، مقراً للجنة الانقلابية الحوثية باعتباره مقراً إمامياً.
وإذا نظرنا قليلاً باتجاه مشروع الحليفين (صالح والحوثي) نجد أن هناك مشروعين عائليين للعودة للسلطة: فالرئيس السابق صالح يعود من خلال نجله، إثر إقصائه بفعل ثورة 11 شباط/ فبراير 2011، والإمامة تعود من خلال الحوثي باعتباره أحد العائلات التي تعتقد بانتمائها لسلالة الرسول صلى الله عليه وسلم، إثر القطع معها منذ قيام ثورة أيلول/ سبتمبر1962 واعتماد النظام الجمهوري، بعد نحو عشرة قرون ونيف من الحكم الإمامي السلالي، حيث قامت الجمهورية العربية اليمنية (اليمن الشمالي)، على أنقاض المملكة المتوكلية اليمنية، التي لم تعرف اليمن خلالها الاستقرار والتكامل الجغرافي والوطني، علاوة على سياسية العزلة التدريجية التي اتبعها النظام الإمامي منذ منتصف الثلاثينيات من القرن العشرين، التي موضعت الشعب اليمني في القرون الوسطى، وحتى ثورة سبتمبر 1962، التي فجرها عدد من الضباط الأحرار المتأثرين بالمناخ الثوري العربي، واستفادوا من الدعم الدولي لحق تقرير المصير.
والذي ساعد كذلك في تحقيق الثورة هو انقسام النخبة السلالية الحاكمة والقوى التقليدية بفعل اعتماد آلية توريث الحاكم، عام 1961، من قبل الإمام يحيى حميد الدين، وهو بذلك خالف القواعد الزيدية في تنظيم آلية انتقال الحكم.
وبناء على ما تقدم، نجد ذاتنا أمام سؤال منهجي: ما هي معوقات سيرورة النظام الجمهوري، ودولة المواطنة منذ عام 1958، حتى يومنا هذا، مروراً بدولة الوحدة اليمنية عام 1990؟
وهذه الأخيرة تم الإعلان عنها تلازماً مع اعتماد النظام الجمهوري التعددي، من قبل المؤتمر الشعبي العام (الحزب الحاكم شمالاً) والحزب الاشتراكي اليمني (الحزب الحاكم جنوباً)، بعبارة أخرى، اندماج أنظمة شمولية وأحادية في بيئات طاردة لكل ما هو تعددي سياسي وحزبي.
إن معوقات التحول باتجاه تعزيز النظام الجمهوري والتعددي (بعد إعلان الوحدة والتعددية عام 1990)، تمتد في أسبابها إلى النشأة الأولى للدولة اليمنية الحديثة، عام 1962، شمالاً ، وعام 1967 جنوباً.
إلا أن وجهة نظرنا ترى أن الآلية التي اتبعت في إدارة شؤون الدولة والمجتمع من قبل الرئيس السابق صالح إثر حرب صيف عام 1994، وما بعدها حتى 2010، لعبت دوراً رئيسياً في تقويض أسس الدولة الوطنية ووأد الانتقال الديمقراطي، حيث اتبعت السلطة الحاكمة جملة من الإجراءات والتعديلات الدستورية، أفضت في مجملها إلى احتكار السلطة وتركزها في يد رئيس السلطة التنفيذية، بعبارة أخرى عممت نموذج الجمهورية العربية اليمنية في إدارة شؤون الدولة والمجتمع.
وكانت أول الخطوات باتجاه التفرد بالسلطة إقصاء الشخصيات السياسية والحزبية المنتمية للمناطق الجنوبية والتسريح المبكر والقسري للكوادر العسكرية المنتمية للمنطقة آنفة الذكر.
وهذا الإجراء أفضى فيما بعد إلى إنشاء الحراك الجنوبي ومطالبه التصاعدية حد المطالبة بفك الارتباط عن الشمال اليمني.
وفي سياق التفرد بسلطة القرار، أعاد المؤتمر الشعبي العام تحالفاته، وتخلص من حليفه الرئيس في حرب صيف 1994، التجمع اليمني للإصلاح، ومن ثمة إجراء تعديلات دستورية في شكل نظام الحكم من مجلس رئاسة جماعي إلى رئاسي فردي.
ولا بد أن نشير هنا إلى أهم مخرجات تلك السياسات المتبعة والمتمثلة بإضعاف قوى التحديث لصالح القوى التقليدية -على سبيل المثال وليس الحصر- نلاحظ نسب تمثيل القوى التقليدية في مجالس النواب، حيث كانت نسبة القوى التقليدية في مجلس النواب (1990-1993)، 29 بالمئة، وارتفعت تدريجياً لتصبح في مجلس نواب 2001، والذي ما يزال قائماً بفعل المبادرة الخليجية وآلياتها التنفيذية 1ر41 بالمئة. أما تمثيل المرأة فقد تناقص تدريجياً من ثماني نساء إلى واحدة.
وبالعودة إلى إجراءات احتكار القرار، فقد عمد النظام الحاكم إلى تقسيم المؤسسة العسكرية والأمنية إلى قطاعات لا تتبع وزارتي الدفاع والداخلية، وإنما أبقاها ذات ولاء لرأس النظام وتتلقى توجيهاتها منه.
كما حصر مناطق تجنيد عناصرها بمناطق شمال الشمال ذات الانتماء الزيدي والقبلي العصبوي، وهي منطقة الانتماء للنخبة الحاكمة ذاتها، التي أيضاً حاول رأس النظام إقصاء أهم الشخصيات العسكرية المنافسة لنجله، ومنها اللواء علي محسن الأحمر، الذي انضم إلى ثورة شباط/ فبراير2011، إثر مجزرة جمعة الكرامة.
لقد عمد رأس النظام إلى إدخال القوات التابعة للواء علي محسن في الحروب الستة مع الحوثي، بهدف إضعافها وتدمير معداتها القديمة وإدخال قائدها في ثأر مباشر مع الحوثيين، وبالمقابل إمداد وتزويد قوات الحرس الجمهوري بقيادة نجله بالمعدات الحديثة والتأهيل المستمر والعالي.
وما تقدم يفسر الاستهداف الخاص للواء علي محسن الأحمر من قبل الحوثيين أثناء الفترة الانتقالية وإبان تسليم صنعاء، حتى هروبه إلى العربية السعودية.
ولم يتوقف الأمر عند ذلك، فقد وظف رأس النظام فوبيا المد
الإيراني لدى العربية السعودية وبعض دول الخليج العربية، من خلال اللعب بالورقة الحوثية بهدف طلب المساعدات وحماية استمراره برأس السلطة، وبالمثل وظف فوبيا القاعدة لدى الدول الغربية، وأنشأ أكثر من جماعة قاعدية لتنفيذ عمليات مدروسة من حيث الهدف والتوقيت.
لقد جاءت ثورة شباط/ فبراير 2011، واليمن دولة فاشلة قابلة للتشظي، فالحراك الجنوبي يطالب بفك الارتباط واستعادة دولته، تعثر الحوار الوطني بين المؤتمر الشعبي العام (الحزب الحاكم) وأحزاب المعارضة الرئيسية (اللقاء المشترك)، تدني ثقة الجماهير بالديمقراطية والأحزاب السياسية غير القادرة على صناعة القرار، وساهم في ذلك التدني الجماهيري عدم حدوث تداول سلمي للسلطة خلال الفترة من (1990-2010)، تدني مؤشرات التنمية، تفشي الفساد، وقبوله في النسق القيمي بفعل تعميمه الممنهج، تآكل سيادة القانون بفعل ضعف السلطة القضائية، وتدني استقلاله، وتفشي الرشوة في هياكلها، مقابل تعميم الأعراف القبلية، بدءاً بحوادث السير، وانتهاء برئيس الجمهورية، الذي احتكم لها في قضية اغتيال جابر الشبواني، من قبل الطائرات الأمريكية دون طيار، ومروراً بحكم القبيلة على الدولة وقبول الدولة بالحكم في قضية "المعجلة" المشهورة.
يضاف إلى ذلك أن إدارة شؤون السلطة والمجتمع جعلت من السلطة التشريعية امتداداً للسلطة التنفيذية، علاوة على تناقض مجلس الشورى المعين مع مبدأ تمثيل الإرادة الشعبية، حيث يمارس هذا المجلس مهاما تشريعية إلى جانب مجلس النواب.
وبناء على ما تقدم، يمكننا القول إن معوقات تجذير النظام الجمهوري لا تنحصر في الثورات المضادة من قبل المشروع الإمامي منذ عام 1962 حتى يومنا هذا فحسب، بل بشكل أكبر وفاعل من قبل الآليات المتبعة في إدارة شؤون الدولة والمجتمع من قبل الرئيس السابق صالح، الذي كانت وسائل الإعلام والشخصيات المقربة منه تسوق مفردة الدولة الصالحية قبيل ثورة شباط/ فبراير 2011 دون مواربة.
إن تلك الإدارة المتبعة آنفة الذكر لم تقوض أسس الدولة اليمنية الحديثة وأهداف ثورة 26 أيلول/ سبتمبر 1962 فحسب، بل أعاقت موضعة المجتمع اليمني في مسار الانتقال الديمقراطي.
الرئيس السابق لم يتوقف عند كل ما تقدم، بل أعاد الفئة السلالية التي ثار عليها الشعب وقطع مع استمرارها في الحكم عام 1962، وذلك من خلال تحالفه مع إحدى عائلات تلك السلالة الإمامية (الحوثي) ذات المرجعية الحركية الإيرانية، ووضعها في سدة الحكم مرة أخرى.
ونختم بالقول إن هذه المساهمة مقاربة متواضعة لمسار اليمن الجمهوري، وبحاجة إلى المزيد من الحفريات العميقة متعددة المرجعيات بهدف صياغة مقاربات أكثر إجلاء للواقع، وبحيث نتمكن من رسم استراتيجيات التدخل المجتمعي من قبل الأطراف ذات العلاقة بالإصلاح، وإعادة البناء للفضاء المجتمعي اليمني إثر "عاصفة الحزم" و"إعادة الأمل".