برهن سقوط نظام الرئيس عبدربه منصور هادي في يناير الماضي -بعد أربعة أشهر من سقوط العاصمة صنعاء بيد قوات الجماعة
الحوثية والجيش المحتفظ بولائه للرئيس السابق علي عبدالله صالح- على أن البلاد التي قامت فيها ثورة قبل نصف قرن بهدف "إنشاء جيش وطني قوي" لا جيش لها حتى الآن.
وما من توقيتٍ أفضل من هذا المتزامن مع ذروة الهجمة المضادة لثورة سبتمبر لاختبار ما أنجزته هذه الثورة، التي قوضت الحكم الإمامي في الشمال
اليمني قبل 52 عاماً، وما أخفقت في تحقيقه من الأهداف التي وضعتها قيادتها حينذاك.
بعد نحو 30 عاماً من المحاولات التي بذلها مثقفون وعلماء دين وزعماء قبليون لإقناع النظام الإمامي بإدخال إصلاحات سياسية ومواكبة العصر، أطلق ضباط في الجيش الإمامي، تأثروا بموجة التحرر العربي، شرارة الثورة يوم 26 سبتمبر من العام 1962 قبل أن تكتسب طابعاً شعبياً.
ولقد شكلت فكرة الثورة في سبتمبر بحد ذاتها نقلة زمنية نوعية تعادل ألف عام، حين تكفلت بإزاحة نظام حكم تجمد أفقه السياسي والحضاري عند تصورات وأجواء القرن الرابع الهجري، لترسي بدلاً عنه نظاماً حديثا يتمثل في قيم القرن العشرين.
ذلك أن نظام حكم آل حميد الدين -الذي حكم شمال البلاد عقب رحيل العثمانيين في 1918- تشبث بنهج الحكام الزيديين الذين تعاقبوا على حكم البلاد على مدى ألف عام، انطلاقاً من منطقة صعدة التي وفد عليها الإمام الهادي يحيى بن الحسين في القرن التاسع ليؤسس دولة تأرجح تاريخها بين القوة والضعف والتوسع والانكماش.
فقد نهج آل حميد الدين نهجاً متشدداً في الحكم يقوم على الانغلاق الشديد والتعصب وعزل البلاد عن العالم مع مقاومة أي محاولة للانفتاح على العصر، معتمدين على أنماط شديدة البدائية والبساطة في الإدارة والاقتصاد، ما أشاع الجهل والأوبئة والفقر أكثر من أي شيء آخر حتى صار هذا الثلاثي هو السمة المميزة لنظام الإمامة.
وضعت قيادة الثورة ستة أهداف، تتصف بالشمول والإحاطة بالجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ثم خاضت حرباً أهلية سرعان ما حولت اليمن إلى مسرح لحرب إقليمية، امتدت سبعة أعوام، حاول خلالها فلول النظام الإمامي الإطاحة بالجمهورية الوليدة بدعم غير محدود من النظام السعودي، في مقابل دعم شامل من نظام جمال عبدالناصر في مصر.
لكن جمهورية سبتمبر انتكست عملياً في الخامس من نوفمبر عام 1967، حين أطاح فريق الجمهوريين المتقارب مع الملكيين بزعامة شيوخ قبليين بالمشير عبدالله السلال المدعوم من مصر وأول رئيس للجمهورية، بحجة انسياقه وراء إملاءات نظام عبدالناصر.
وفتح "انقلاب 5 نوفمبر" الباب واسعاً لسياسات مضادة لتوجهات جمهورية سبتمبر، قبل أن يتفجر صراع مسلح بين العسكريين الجمهوريين الذين قادوا معركة الدفاع عن العاصمة صنعاء خلال تعرضها لحصار مطبق دام 70 يوماً على يد جيش ضم عشرات الآلاف من فلول الجيش الملكي ومقاتلين مرتزقة من جنسيات أوروبية متعددة، مولتهم السعودية للانقضاض على الجمهورية.
انتهى التناحر الداخلي الذي عرف بأحداث أغسطس عام 1968، بتغلب الفريق المدعوم من قادة انقلاب نوفمبر، وإطلاق حملة تصفيات واسعة للضباط الذين تصدروا معركة الدفاع عن صنعاء، في حين لجأ البقية إلى قراهم فراراً من المطاردات والتضييق اللذين طالا السياسيين الذين لم يكونوا على انسجام مع العهد الجديد الذي صار يشار إليه بـ"جمهورية نوفمبر".
بانقلاب نوفمبر الذي دفع بالقاضي عبدالرحمن الإرياني إلى سدة الحكم، بدأت حقبة اتسمت بالفساد وهشاشة الدولة ونشوء مراكز نفوذ يتزعمها شيوخ قبليون، سيطروا على القرار، وتقاسموا إدارة محافظات البلاد.
وانخفض سقف الطموح العالية التي كانت الثورة أطلقتها إلى طموح هامشية، مع خنق الحريات السياسية، فهمدت روح "سبتمبر"، وتعالت الشكوى، الأمر الذي دفع ضباطاً في الجيش بقيادة المقدم إبراهيم محمد الحمدي إلى الإطاحة بالرئيس الضعيف عبدالرحمن الإرياني في انقلاب أبيض، دشن مرحلة حكم عسكري.
على الرغم من أن حركة 13 يونيو التصحيحية بقيادة إبراهيم الحمدي علقت العمل بالدستور وحلت مجلس الشورى، غير أن ذلك لم يكن ليثير الغضب الشعبي بالمقارنة مع ما حققته الحركة من إعادة الاعتبار للنظام العام وتنمية المناطق الريفية إلى جانب قائمة طويلة من الإنجازات التي أثبتت جديتها في استعادة روح الثورة والتصميم على فرض هيبة الدولة وإنهاء مراكز القوى النافذة.
لكن لسوء حظ "سبتمبر" والمستبشرين بعودة نهجه، انتكست هذه التجربة الجريئة بعد اغتيال قائدها الحمدي في أكتوبر عام 1977، بمؤامرة يعتقد على نطاق واسع أنها من تدبير النظام السعودي ومراكز القوى القبلية التي انتقمت لإضعاف نفوذها خلال الحركة التصحيحية.
هكذا.. أعيد "سبتمبر" إلى مساره المتعثر، باغتيال قائد حركة يونيو التصحيحية، وإجهاض مشروع الحركة فيما بعد.
بالقياس إلى هدف الثورة الثالث القاضي بـ "رفع مستوى الشعب اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً وثقافيا"، يغدو هذا الهدف حجة دامغة على الأنظمة والحكومات المتعاقبة منذ 1962، حين تفيد المسوح الحكومية ودراسات المؤسسات الدولية المعنية أن غالبية المواطنين يعيشون تحت خط الفقر، الأمر الذي أوصل اليمن ليكون واحدا من أفقر البلدان في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، مثلما تسجل البطالة فيها معدلاً هو الأعلى في المنطقة ذاتها.
وبلغ الانقسام الاجتماعي والوطني في العامين الأخيرين مستوى ينذز بتشظي البلاد وفقاً لنزعات جهوية وطائفية، قبل الانزلاق الفعلي إلى الحرب الأهلية التي غدا شبحها ماثلاً أكثر من أي وقت مضى، بفعل اشتعال القتال في معظم المحافظات في أعقاب سيطرة قوات جماعة الحوثيين والرئيس السابق
علي صالح على العاصمة صنعاء في سبتمبر 2014.
ثورة سبتمبر في موازاة ثورة أكتوبر في الشطر الجنوبي من البلاد قادتا إلى تحقيق الوحدة الوطنية التي نادى بها الهدف الخامس من أهداف "سبتمبر"، وذلك في مايو 1990، غير أن الوحدة سرعان ما اصطدمت بحرب أهلية مدمرة، أفرغتها من مضمونها، وغذت الحنين لدى المواطنين في محافظات الجنوب إلى استعادة دولتهم التي كانت قائمة قبل 1990.
لذلك، صار الحفاظ على الوحدة أكبر تحدٍ وطني ينتصب أمام الحكومات منذ تنامت مطالبات الجنوبيين بفصل محافظاتهم في دولة مستقلة مجدداً بوتيرة متسارعة، مستفيدة من انطلاق احتجاجات الحراك الجنوبي في 2007.
ويبقى الإخفاق البارز الذي رافق مسيرة "سبتمبر" على مدى نصف قرن هو عجز أنظمة الحكم التي تعاقبت خلال هذه المدة عن إرساء نظام للعدالة الاجتماعية، يمكّن أفراد المجتمع من فرص متساوية لنيل حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية.
فوق ذلك، تضخمت الفوارق على نحو قياسي بين أكثرية فقيرة وأقلية غنية، أثرى أفرادها ثراء فاحشاً بفعل استغلال سلطاتهم العامة في التجارة وأساليب الكسب غير المشروع، ونشأ عن ذلك فوارق جديدة وخيالية بين طبقات المجتمع في الامتيازات على النقيض تماماً من هدف الثورة الأول الذي نص على "التحرر من الاستبداد والاستعمار ومخلفاتهما وإقامة حكم جمهوري عادل وإزالة الفوارق والامتيازات بين الطبقات".
أما قضية الديمقراطية التي ضمّنتها الثورة في هدفها الذي نص على "إنشاء مجتمع ديمقراطي تعاوني عادل مستمد أنظمته من روح الإسلام الحنيف"، فعلى الرغم من إقرارها متلازمة مع الوحدة في 1990، إلا أنها تكاد تكون قد أفرغت من مضمونها على نحو أبقى على مظاهرها وشكلياتها وسحق جوهرها.
ويكفي لإبراز المأزق الذي وصلت إليه الديمقراطية اليمنية الناشئة أن البرلمان الحالي دخل يوم عامه الثالث عشر، بما يساوي فترة ثلاثة برلمانات في غالبية بلدان العالم الديمقراطي.
عدا ذلك، فإن الديمقراطية اليمنية لم تؤد الوظيفة الأساسية المنوطة بالديمقراطيات، وهي تداول السلطة سلمياً؛ إذ احتاج الشعب إلى ثورة شعبية عارمة في 2011 لإزاحة الرئيس السابق علي عبدالله صالح من السلطة بعدما حكم 33 عاماً منها 21 عاماً بعد إقرار الديمقراطية.
من الصعب محاكمة ثورة سبتمبر بما هي فكرة، ثم سرد إخفاقات تسببت بها أنظمة وحكومات ونسبها إلى فكرة الثورة هذه.
ويمكن للمعادلة التالية إيضاح العلاقة الحقيقية بين السلطة والثورة والدولة لتمييز المسؤولية التاريخية لكل منها: السلطة غدرت بالثورة وضعضعت مكانة الدولة، ولمّا كانت الأخيرة هي الإطار الذي من المفروض أن يعكس أهداف ثورة سبتمبر إنجازات عملية، فقد أخفقت هذه العملية حين سقطت إدارة الدولة في أيدي رجال لم يؤمنوا بالثورة في عهدها الأول، إلا أنها لحظة استرداد وديعة الحكم، فيما رأى فيها الحكام المتأخرون درباً لتأبيد بقائهم في الحكم.
بين هذا وذاك، سيظل سؤال "سبتمبر" الكبير مرسوماً في عيون الملايين الفقيرة والتلاميذ الذين لا يستطيعون الالتحاق بالمدارس، بعد أن ضاقت بهم مجانية التعليم ومجاميع العطاشى التي تتعارك أمام حنفية للفوز بصفيحة ماء في المدن الحضرية والريف على السواء.