نشرت دورية "فورين أفيرز" الأمريكية تحقيقا مثيرا بعنوان "
السيسي والأربعون حرامي.. لماذا لا يزال
الفساد مستشريا في القاهرة". وقالت الدورية المرموقة إن التحقيق استغرق عاما كاملا، واعتمد على وثائق مسربة وعلى إفادات من مسؤولين من داخل مؤسسات الدولة، وأنه يكشف النقاب عن مستنقع من الممارسات الفاسدة وعن فشل ذريع في كبح الفساد من قبل نفس الهيئات التي تدعي أنها ضالعة في محاربة الفساد.
وقال التحقيق الذي أعده الباحثان "نزار مانيك وجيريمي هودج": "في ديسمبر 2014، جمع رئيس الوزراء إبراهيم محلب كبار المسؤولين في الدولة لإطلاق الاستراتيجية المصرية الجديدة التي صيغت مؤخرا لمحاربة الإرهاب على مدى أربعة أعوام، وكانت المناسبة هي اليوم العالمي لمناهضة الفساد.
اجتمع المسؤولون في قاعة ضخمة، تقول مجلة "فرين أفيرز" في تحقيق نشرته الجمعة 26 حزيران يونيو، وكان من بين الحضور وزير الداخلية محمد إبراهيم (الذي ما لبث أن فصل من عمله بعد ذلك)، بالإضافة إلى رئيس سلطة الرقابة الإدارية محمد عمرو هيبة (والذي استبدل فيما بعد وعين مستشارا للرئيس عبد الفتاح السيسي) ومستشار وزير العدل عزت خميس، وكذلك خالد سعيد، رئيس الأمانة الفنية لكيان يعرف الآن باسم لجنة التنسيق الوطنية لمحاربة الفساد.
وقف محلب يفاخر بالنجاح الذي حققه السيسي بنقل مصر 20 درجة إلى الأعلى في آخر مؤشر كوني سنوي لمدركات الفساد الذي تصدره مؤسسة الشفافية العالمية، حيث باتت مصر تحتل الموقع 94 بدلا من الموقع 114 من بين ما يزيد عن 170 قطرا، في محاولة لاسترضاء أحد أبناء السيسي، واسمه مصطفى، وهو مسؤول في سلطة الرقابة الإدارية وأحد أفراد الطاقم المكلف بتطهير أجهزة الدولة من الفساد".
وأضاف الباحثان للرد على تصريحات محلب تلك، "إلا أن تحقيقا استغرق عاما كاملا، واعتمد على وثائق مسربة وعلى إفادات من مسؤولين من داخل مؤسسات الدولة، يكشف النقاب عن مستنقع من الممارسات الفاسدة وعن فشل ذريع في كبح الفساد من قبل نفس الهيئات التي تدعي أنها ضالعة في محاربة الفساد".
سرقة "الأموال الخاصة"
واستعرض التحقيق جوانب مختلفة من الفساد، حيث بدأ بإلقاء الضوء على ما أسماه "
سرقة الأموال الخاصة"، مشيرا إلى أن المسؤولين المصريين "أخفوا ما لا يقل عن 9.4 مليار دولار من أموال الدولة في حسابات لا تخضع للرقابة والتدقيق داخل البنك المركزي المصري وكذلك داخل بعض المصارف التجارية المملوكة للدولة، وأنفقوها جميعا بنهاية السنة المالية 2012 /2013 . كثير من هذه الحسابات، والتي يطلق عليها مصطلح "أموال خاصة"، يقوم على إدارتها وتشغيلها مؤسسات مثل وزارة الداخلية وسلطة الرقابة الإدارية."
وتابع التحقيق "منذ أن أطاح العسكر بالرئيس محمد مرسي في 2013 واستولوا على السلطة بنهاية السنة المالية، من الممكن جداً أن يكون قسم من الدعم الخليجي الذي انهال على البلاد قد انتهى به المطاف إلى داخل حسابات "الأموال الخاصة" التي يديرها العسكر".
وأضاف "وكانت قناة "مكملين" التي تبث من اسطنبول قد بثت في وقت مبكر من هذا العام سلسلة من التسجيلات الصوتية المسربة للسيسي ومدير مكتبه عباس كامل، حيث بدا الرجلان يتناقشان حول تحويل أموال الدعم الخليجي البالغة 30 مليار دولار إلى حسابات يديرها الجيش.
كما كشفت تسريبات أخرى عن حوارات بين عباس كامل والسيسي وشخصيات خليجية متعددة جرى خلالها الحديث عن خطط لتحويل المساعدات الخليجية إلى عدد من الشخصيات العسكرية من خلال حسابات مصرفية تدار باسم حركة تمرد التي كانت رأس الحربة في الاحتجاجات التي نظمت ضد مرسي في حزيران يونيو 2013".
وأكد التحقيق إن "حسابات "الأموال الخاصة" كان لها علاقة بأحد رجالات مبارك الفريق محمد فريد التهامي، الذي كان رئيس سلطة الرقابة الإدارية في عهده، والذي يعتبره كثير من الناس معلم السيسي وملهمه (يقال بأن الرجلين تقابلا للمرة الأولى عندما كان التهامي مدير وحدة الاستخبارات والاستطلاعات العسكرية في مصر)".
وتابع "خلال السنة المالية 2010 إلى 2011 كانت حسابات "الأموال الخاصة" تلك تحتوي على 900 مليون دولار تقريبا، وكان بعضها تستخدمه سلطة الرقابة الإدارية، وإن كان لا يعرف بالضبط حجم الأموال التي جرى التصرف بها في حينه. كان ذلك هو العام الذي أطيح فيه بحسني مبارك".
وسلط التحقيق الضوء على دور محمد فريد التهامي، وأشار إلى أن الرئيس مرسي اتخذ قرارا بإقالته من رئاسة سلطة الرقابة الإدارية وذلك إثر شيوع اتهامات وجهها محقق ثانوي للتهامي بأنه أتلف أدلة كان يمكن أن تدين بعض كبار المسؤولين في نظام مبارك، مضيفا أن التهامي "أدين بعد ذلك فعلا بتهم منها إخفاء أدلة تدين رجال أعمال على صلة وثيقة بكبار الضباط في المجلس الأعلى للقوات المسلحة كانوا يبيعون بشكل غير مشروع الوقود المدعوم واستخدموا أموال ميزانية سلطة الرقابة الإدارية لشراء هدايا قدمت لرئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة المشير محمد حسين طنطاوي".
وتابع التحقيق "لكن بمجرد ما أن استولى السيسي على السلطة اختفت ملفات القضية بشكل غامض، وأصدر قرارا بتعيين التهامي (الذي كان قد أحيل مؤخرا على التقاعد) على رأس مديرية المخابرات العامة ذات الارتباط الوثيق بالعسكر، والتي تدار بشكل مباشر من قبل مكتب الرئيس".
"مكافحة الفساد".. حاميها حراميها!
واستعرض التحقيق سياسة النظام المصري لمحاربة الفساد، مشيرا إلى أن هذه السياسية يمكن أن ينطبق عليها القول الشعبي "حاميها حراميها"!. وقال: "في الوقت الراهن، تقضي استراتيجية مصر لمكافحة الفساد بتكليف الكيانات التي كانت ممثلة في اجتماع ديسمبر بالإضافة إلى تشكيلة أخرى من ضمنها جهاز المخابرات بتطبيق سلسلة من المعايير، وهي عملية بدأت في العام الماضي ومن المفترض أن تنتهي في عام 2018".
وتابع "تشتمل هذه المعايير على إجراءات تبدو في الظاهر حسنة النية منها "إقامة محاكم خاصة للنظر في قضايا الفساد خلال الفترة من بداية 2015 إلى نهاية 2016" و "إيجاد وسائل رسمية لتبادل المعلومات بين المجتمع المدني والقطاع العام في الدولة وأجهزة مكافحة الفساد"".
وكان من المقرر قياس التقدم في هذا المشروع من خلال عدة مؤشرات أداء، ومن أكثرها شيوعا "تقارير" يجري إعدادها بشكل غامض "بمعرفة" لجنة التنسيق الوطنية لمحاربة الفساد.
وبحسب التحقيق الذي نشرته "فورين أفيرز" فإن عضوية لجنة التنسيق الوطنية يشترك فيها ممثلون عن عدد من الكيانات التي تثار حولها الشبهات مثل الوزراء المتهمين في ذممهم أو سلوكياتهم وبعض مجموعات مكافحة الفساد في مصر مثل سلطة الرقابة الإدارية، ووحدة مكافحة تبييض العملة، ومكتب المدعي العام، ووزارة الداخلية، وجهاز المخابرات ووزارة العدل.
ويبدي التحقيق استغرابه من أن "معظم هذه الكيانات إما أنها نفسها متورطة في الفساد أو أنها يجري التحقيق معها أو التحري بشأنها من قبل الجهاز المركزي للمحاسبات، وهو كيان حكومي للتدقيق ومحاربة الفساد يترأسه المستشار هشام جنينه".
ويعلق التحقيق على هذه التشكيلة المثيرة للجدل بالقول "إن هذه الكيانات لها مصلحة كبرى في تعطيل وتخريب أعمال لجنة مكافحة الفساد؛ ومن الممكن جدا أن تكون هذه المجموعات الفاسدة قد بدأت بتحويل لجنة التنسيق الوطنية إلى مقر لإبرام الصفقات السرية فيما بينها. ونتيجة لذلك، ونظرا لأن الجهاز المركزي للمحاسبات وسلطة الرقابة الإدارية ممثلتان في لجنة التنسيق الوطنية، فقد اصطدمت تحريات وتحقيقات الجهاز المركزي بعدد من الكيانات الأخرى ودخلت في صراع معها".
جنينة والحسابات المركزي
وخص التحقيق الجهاز المركزي للمحاسبات بجزء من الدراسة، حيث يشير إلى أن رئيس الجهاز هشام جنينة "قذف في العام الماضي بشكل خاص الكثير من الوحل على وزارة الداخلية، واتهم علانية عددا من كبار مسؤوليها باختلاس أموال الدولة وتسريبها إلى حسابات مصرفية خاصة، كما وجه إصبعا من الاتهام نحو أعضاء بأسمائهم داخل مكتب المدعي العام وداخل سلطة الرقابة الإدارية متهما إياهم بالتورط في شراء أراض مملوكة للدولة بأسعار زهيدة هي أقل بكثير من القيمة الحقيقية لهذه الأراضي، كما اتهمهم أيضا بالعمل الدؤوب على تخريب القضايا التي يعدها ضد المشتبه بفسادهم وذلك من خلال تعطيل ما الجهاز الذي يرأسه إلى المحاكم للنظر فيه".
وتابع "كما استهدف جنينه عددا من أبرز القضاة، ومنهم أحمد الزند، وزير العدل الذي عين مؤخرا، وشركاؤه الذين شنوا عليه حملة مضادة للقضاء عليه وذلك من خلال رفع قضية ضده تطالب بالطعن في أهليته لأنه "أهان" أعضاء السلك القضائي.
ويجري الآن النظر في القضية من قبل مكتب المدعي العام، والمعروف بصلته الوثيقة بالشرطة وبالجيش وبالجهاز القضائي الذي يترأسه الزند. ويبدو محتملاً جداً أن القضاء سيعمد إلى تقويض أي جهود يبذلها جنينه لمحاسبة المتهمين بالفساد وتقديمهم للعدالة".
وأضاف التحقيق "قد يبدو جنينه للمراقب كما لو كان سمكة وحيدة في بحيرة تغص بالتماسيح، ولكنه يتمتع بحماية منشؤها، جزئيا، دعمه اللامحدود للسيسي وللنظام العسكري الحالي في مصر. وكان جنينه قد صرح في إحدى المقابلات الإعلامية أن السيسي أعطاه شخصيا الضوء الأخضر للمضي قدما في اجتثاث الفساد من مؤسسات الدولة بما في ذلك وزارة الداخلية. كما ادعى مرارا وتكرارا أن المؤسسة العسكرية في مصر وكذلك مكتب الرئاسة لا تشوبهما شائبة من فساد وأنهما لم يمنعا فريق التدقيق التابع له من القيام بمهامه أو من الوصول إلى كل ما طلب الاطلاع عليه".
وأشار التحقيق إلى أن ولاء جنينه للنظام يبدو أنه قد آتى أكله، "ففي الشهر الماضي صدر حكم بالسجن لستة شهور على مقدم برامج تلفزيوني بارز بتهمة إهانة جنينه واتهامه بأنه عضو في جماعة الإخوان المسلمين التي باتت الآن محظورة".
وكان جنينه في نوفمبر من العام الماضي قد رفع مذكرة إلى كل من محلب والسيسي يتهم فيها الشرطة بالسطو على غرفة كان يستخدمها فريق التدقيق التابع له أثناء تحريات تتعلق بوزارة الداخلية. قيل حينها إن الشرطة سرقت سجلات تحقيق ودفاتر ملاحظات. ولكن بالرغم من كل ذلك يعمل جنينه معهم من خلال لجنة التنسيق الوطنية لمكافحة الفساد.
وبحسب التحقيق، فإن "الدعم الذي يحظى به جنينه من كل من السيسي والعسكر يعتبر بمثابة مؤشر واحد فقط على احتمال أن يطرأ تحول على المهمة الموكلة إليه: وذلك أن المخابرات وقوات الأمن المصرية قد تلعب أيضا دورا موسعا في الفساد".
ترويض الصحافة "الموالية"
وقد قدم التحقيق دراسة وافية عن دور الصحافة ومؤسسات المجتمع المدني المفترض في محاربة الفساد، لكنه يرى أن هذه المؤسسات تم تفريغها من محتوى وأفقدت أي قدرة على ممارسة دورها.
وقال الباحثان "رغم أن الاستراتيجية الوطنية المصرية لمكافحة الفساد تسعى فعلا إلى إيجاد حيز للمجتمع المدني ولوسائل الإعلام ولغير ذلك من العناصر الفاعلة حتى يشاركوا في مراقبة الفساد ورصد تنفيذ المعايير التي تنص عليها الاستراتيجية إلا أن هذه الكيانات الرقابية جرى بشكل كبير احتواؤها أو تجريدها من القدرة على ممارسة عملها بحرية".
وتابع التحقيق "ثمة مسودة قانون، جرى تسريبها في نوفمبر 2014، تسعى إلى تجريم نشر أي معلومات تتعلق بالجيش مما تعتبره القوات المسلحة "أسرارا تتعلق بالأمن القومي". ورغم أن القانون لم يسن بعد، إلا أنه آثاره حتى الآن مرعبة، ولا أدل على ذلك من أن المحادثات المسجلة بين السيسي ومدير مكتبه والتي وقع تسريبها في وقت مبكر من هذا العام لم تحظ بأي تغطية إعلامية في الصحافة المصرية المحلية".
واستعرض التحقيق بعض الممارسات بحق الصحافة لمنعها من أداء دورها، مشيرا إلى أن الشرطة "استدعت خلال الشهور القليلة الماضية عددا من الصحفيين من صحيفة "المصري اليوم" ذات الملكية الخاصة وكذلك من صحيفة "الدستور" الموالية للنظام، وأحالتهم إلى مدعي أمن الدولة بعد أن نشرت كل من الصحيفتين تقارير عن مزاعم بوجود فساد داخل وزارة الداخلية.
وكانت المفارقة أن صحيفة "الدستور" ادعت أن وزارة الداخلية نفسها هي التي أوصت بتوظيف الصحفي الذي يحرر صفحة الجرائم في الصحيفة، والتي نشرت فيه التقارير المتعلقة بمزاعم الفساد في الداخلية. على كل حال، لم يبق أحد منهم قيد التوقيف، وأعلنت وزارة الداخلية هذا الشهر عن إسقاطها للتهم القانونية الموجهة ضد "المصري اليوم" كجزء من "الجهود التي تبذلها لتعزيز العلاقة مع الأطراف المختلفة في البلاد ومع مختلف وسائل الإعلام".
ونوه التقرير إلى العلاقة الملتبسة بين السلطة وبين المنظمات غير الحكومية، حيث أشار إلى أن "هناك مسودة قانون آخر، أعلن عنها مباشرة بعد أن وصل السيسي إلى الرئاسة، تمنح الحكومة صلاحية إغلاق وتجميد أموال ومنع تمويل ومصادرة ممتلكات وحل مجلس أمناء أي منظمة غير حكومية وتجريدها من القدرة على إنفاذ أي من المعايير التي وضعتها مصر نفسها ضمن استراتيجيتها لمكافحة الفساد".
ولخص التحقيق خلاصة بحثه الذي استمر لمدة سنة كاملة بالقول "تذكر إجراءات السيسي بقصة علي بابا وكيف أنه تمكن من خداع أربعين لصاً وتجريدهم من الذهب الذي كان بحوزتهم من خلال حفظه لكلمة السر التي تفتح الباب المؤدي إلى باب الكهف الذي كانوا يخفون فيه كنزهم، وهي عبارة "افتح يا سمسم". أما كلمة السر في حالة السيسي فهي عبارة "مكافحة الفساد"".