رسالة الى الشاعر الكبير
أيها الشاعر الكبير؛ قرأتُ حواركَ في جريدة "السفير"، يوم الجمعة 19 حزيران 2015، ولم أستمتع به. موقفكَ من الدين "الرسمي"، بقدر ما ينطوي على نقد تفكيكي جوهري، تُشهره، وتتباهى به، إعرابا عن "خروجكَ" و"ضلالكَ" و... علمانيتكَ، ينطوي في الآن نفسه، على ما ينقض هذا النقد، ويلغيه. حتى لكأنكَ مقيمٌ في الجوهر من "بعض" هذا الدين، عاشقٌ له، ومتيّمٌ به، وناقضٌ باسمه... "بعضَه" الآخر. هذا شأنكَ، وأنتَ حرٌّ فيه. لكنْ، هل أحدٌ يعرف حقاً موقفكَ الباطني العميق من "الطائفة"، المنسحب استطراداً على موقفكَ من النظام الحاكم والقائمين عليه؟!
لم تعد هذه المسألة، يا سيدي الشاعر، تنطلي إلاّ على السذّج من الغربيين، "المستشرقين"، وعلى بعض المريدين العرب، المأخوذين بالشعارات والكليشيهات، والمواقف الأنتي دينية. ربما كان الأجدر بكَ، أيها الأستاذ، أن تعتزل، أو تؤثر الصمت، أو تعتذر، تكفيراً عن الذنوب المادية والمعنوية التي ارتكبتَها، ولا تزال، في حقّ شعبكَ السوري العظيم، عندما فضّلتَ منذ بداية الانتفاضة على النظام الجائر، أن تقف، "موضوعياً"، إلى جانب حبيب قلبكَ، المستبدّ الغاشم، بأن نحرْتَ الثورة الشعبية النقية، وهي جنين، منكِّلاً بها، مجرّحاً بأدواتها، وأهدافها، مستخفاً بمنشديها، وحالميها، وأبريائها، ومناضليها، وشعرائها، وكتّابها، وفلاّحيها، وعمّالها، وفتياتها، ونسائها، وأطفالها و... شهدائها!
لا. لم تخرج الانتفاضة السورية من المساجد، أيها الشاعر الكبير، بل هي ظلّت طوال أشهر ستة متواصلة، تنبجس، كما الينابيع، من الوجدان الجمعي والشعبي العارم. من أوجاع المقابر الجماعية، من الأزقة الفقيرة، من النوافذ التائقة إلى الشمس والهواء، ومن الأحلام المقموعة والمجهضة طوال عقود أربعة وأكثر. لكنكَ لا تستطيع أن تصدّق، أيها الأستاذ، ولا تريد أن تصدّق أن شيئاً ما، أبيض، نقياً، لطيفاً كالجوهر، يمكن أن يعطينا إياه الشعب السوري، غير خنوعه ورضوخه للنظام القائم. والحال هذه، تجد نفسكَ مدعوّاً إلى تسديد الديون عن المندوب الأسدي، وأن تحميه (موضوعياً أيضاً)، بتشويه الثورة المندلعة ضدّه، وتحريف معناها الأول، والزجّ بها في الأتون الطائفي المذهبي.
هذا ليس غريباً عنك. فمثلما سبق لكَ أن جعلتَ من بيروت المتمردة لكن المجهضة، ممسحةً مهيضة، عندما ساويتَ بين أحرارها وعبيدها، جعلتَ من ثورة الشعب السوري النقية فعلاً طالعاً من لحى المشايخ وليل التكفير والإرهاب. من حقّكَ، أيها الشاعر الكبير، أن تواصل نظريتكَ هذه، ممعناً في تشويه صرخة هذا الشعب، وفي تمريغ ثورته المغدورة، مفلسفاً البديهيات والمعاني، مضفياً عليها الكبائر والصغائر، من أجل أن تصير هذه الثورة في عينيك، وفي عين العالم، جريمة موصوفة يجب وأدها!
لكن من حقّ القارئ عليكَ، ألاّ تستغبيه، وتستخفّ بعقله. هل يجب أن أذكّركَ، أيها الشاعر الكبير، بقصيدتكَ "المذهبية"، التاريخية العصماء، في الثورة الإسلامية الإيرانية ("
العلمانية"، مش هيك؟!)، التي خرجتْ من المساجد، ورفعت الرايات التي توازي رايات "داعش" و"النصرة"، وكنتَ حريصاً على المناداة بها فوق رؤوس الأشهاد، أم يجب أن أذكّركَ بأصدقائك الشعراء الذين ماتوا قتلاً، في العالم، لأنهم فضّلوا الهواء الطلق، والأغاني والأناشيد، وإيقاع الأحلام، على... التماهي مع وجه الطاغية؟!
لكن التذكير لا ينفع معكَ أيها الشاعر، لأنكَ اخترتَ التنظير من برج عيشكَ المترف الرغيد، وهذا خياركَ وحقّكَ، ولأنكَ قررتَ أن تظلّ تطعن في حقّ الشعب السوري في التحرر من الطغيان. في هذا، أقول: يا عيب الشوم عليك، أيها الشاعر!
لقد كان ثمة حقيقةٌ مؤرّخة بالصوت والصورة، فمَن يستطيع أن يزوّر؟! نعم، كان ثمة شعبٌ سوريّ يغنّي ويهزج في الشوارع. وكان ثمة شبّانٌ وشاباتٌ وأطفالٌ ونساء وأمهات وأرامل وأيتام وأجنّةٌ وأحرارٌ وشعراء وحقولٌ من الأحلام والورد. فلن تجديكَ التحليلات والتفكيكات الدينية والطائفية والفلسفية والتأويلية التي تمعن تشويهاً في تاريخ الثورة. ولن يغفر لكَ التاريخ وقوفكَ ضدّ هذه الملحمة الحالمة التي كانت تولد في عيون هؤلاء.
أعرف تماماً، ويعرف الثوّار السوريون الحقيقيون الأنقياء، ومعهم سربٌ كبيرٌ جداً من المثقفين السوريين واللبنانيين والعرب المغدورين، أن الثورة السورية لم تعد اليوم ثورةً حقة، وهذا بفضل أمثالكَ. فشكراً لأفعالكَ الحميدة، أيها الشاعر.
بعدما قرأتُ حواركَ الأخير هذا في "السفير"، وقبله مواقفكَ المتكررة إياها، منذ سنة، وسنتين، وثلاث، وأربع، أقول: ليتكَ، الآن، تعتزل، أو تؤثر الصمت، أو تطلب الغفران، أيها الشاعر الكبير.
لكن مأساتكَ مزدوجة، يا
أدونيس. فأنتَ في عنق الزجاجة الدينية والتاريخية والفكرية، ولن يجديكَ لا الخروج من عنقها ولا النزول إلى القعر. هذه لعنة التاريخ، فاثمل بها!
(نقلا عن صحيفة النهار اللبنانية)