تونس مسقط رأس ربيع العرب وشرارة التغيير التي عصفت بقلب المنطقة العربية ولا تزال. تونس ثورة سلمية راقية واجهت فيها الجماهير بصدورها العارية وبحناجرها التي لا تلين آلة الموت الدموية لواحد من أشرس أنظمة الاستبداد العربي. تونس هي "الشعب يريد إسقاط النظام" وكان له ما أراد لقد سقط رأس النظام. تونس أيضا مسار انتقالي بهزاته ورجاته الارتدادية و صراع مرير مع الدولة العميقة وأذرعها الضاربة.
المخاض في تونس عسير وآلام الوضع شديدة لكن من رحِم الآلام تولد الشعوب وتُصنع الأمم فلم يحدث في تاريخ الدول والشعوب أن أُنجزت شروط
السيادة دون ضريبة باهظة ودون معاناة وجهد.
اليوم تواجة الثورة التونسية أعظم تحدياتها عبر مقارعتها لفرق الموت الجوالة والعصابات العابرة للحدود ومجموعات الدم الغامضة التي تستهدف منجزها الثوري وتهدد خاصة مكسب الحرية العظيم سعيا منها إلى إنجاز شروط الاستبداد عبر تفعيل حالة الفوضى وهندسة العنف.
العمليات
الإرهابية الأخيرة التي طالت قلب السياحة التونسية جزء لا ينفصل عن هذا المشروع الانقلابي الساعي إلى تطويق المكاسب الثورية واستغلال الوضع الاجتماعي الهش عبر ضرب العصب الاقتصادي الحساس واستنزاف طاقات القوات الأمنية والعسكرية في الدولة.
تونس كانت دائما حمامة سلام ولم ينزع شعبها إلى العنف مطلقا لأسباب عديدة تاريخية وحضارية وقد ساعدت التركيبة الاجتماعية المنصهرة تاريخيا على ذلك. كما كانت البلاد عبر تاريخها القديم تقاطعا وممرا لحضارات عديدة خلقت على الأرض قدرة كبيرة على التعايش والتجاور والاختلاف والتنوع لكن سنين الاستبداد الأخيرة في عهد الوكيل الأول الحبيب بورقيبة (1956 ـ1987) والوكيل الثاني بن على (1987 ـ 2010) عمقت شروخا اجتماعية كبيرة طبقية من ناحية أولى وجهوية من ناحية ثانية.
فبرزت منذ الفترة "البورقيبية" طبقة ميسورة إقطاعية أساسا تنحصر في عائلات بعينها وُرثت تركة الاستعمار من عقار وأراض ومشاريع فأنشأت النواة الأولى للبورجوازية التونسية وهي أساسا بورجوازية حضرية تتمركز في المدن والحواضر. أما خلال حكم الرئيس الهارب بن علي فقد تعمقت الفوارق الاجتماعية وتحولت البورجوازية المحلية إلى طبقة أكثر شراسة وأكثر استحواذا على الثروات الوطنية وانتشر بينها فساد كبير حوّل الدولة إلى مجال للنهب المنظم وبيع الثروات الوطنية إلى شركات السطو العالمية وهو ما سرّع باندلاع ثورة 17 ديسمبر الخالدة. خلال نفس الفترة ومنذ العهدة "البورقيبية" كرست الدولة سياسة مركزيةً خطيرة بين شمال وساحل مترفين وبين مناطق الجنوب والوسط والشمال الغربي الغارقة في الفقر وفي انعدام ركائز التنمية وغياب البنية التحتية وإهمال طبي وتعليمي متعمد. هذا الخيار الجهوي عمّق التناقض القائم بين المركز والهامش وخلق هوة اجتماعية وتنموية سحيقة يمثل ردمها أعظم تحديات الثورة وأهم صمام أمان لمستقبل البلاد ولأمنها القومي.
هذا الخلل الاجتماعي والجهوي هو الذي كان الشرارة التي أطلقت الثورة في ريف سيدي بوزيد الفقير لتمتد بعد ذلك إلى كامل الجسد التونسي. الملاحظ أيضا هو أن الثورة المباركة عندما بلغت العاصمة تونس إنما اندلعت في أحزمة الفقر ومدن الصفيح التي تحيط بالعاصمة، وسكان هذه الأحياء البائسة إنما هم في الأصل نازحون من المناطق العميقة في شمال تونس الغربي ووسطها وجنوبها. أي أن المنجز الثوري كان دائما سواء في الأعماق أو في المركز من إنجاز أبناء المهمشين والمنبوذين من الطبقات المسحوقة.
رغم ذلك ورغم كل جرائم الاستبداد فقد حافظت البلاد على وحدة نسيجها الاجتماعي وعلى قيمها التاريخية رغم كل محاولات تجفيف الينابيع وضرب أسس الهوية ومحاربة اللغة العربية والأشكال التعبيرية والثقافية المرتبطة بها. وهي مشاريع تهدف ـ في تناغم صريح مع المشاريع الاستعمارية الكبرى في المنطقة ـ إلى تطويق المجتمع والدولة وعزلها عن محيطها العربي الإسلامي وتعميق توجهها الإقليمي من صنع مفهوم الدولة الأمة داخل الإطار الإقليمي وهو المشروع الذي كُلف به بورقيبة وجاهر به في خطبه البائسة لكنه لم ينجح.
نجحت تونس إذن في امتصاص كل المحاولات التخريبية الكبرى لضرب أسسها الحضارية عبر محوري الاستعمار والاستبداد وتمكنت أخيرا من تحقيق معجزة تاريخية تمثلت في ثورة الكرامة فأسقطت واحدا من أشرس المنوالات الاستعمارية الاستبدادية في التاريخ الحديث. صحيح أن بورقيبة وبن علي لا يقارنان في دمويتهما بأساتذة القمع في بلاد العرب مثل الأسد الأب والابن أو معمر القذافي أو عبد الفتاح السيسي، لكن طبيعة التركيبة الثقافية والسلوكية للمجتمع التونسي هي التي فرضت ذلك رغم شراسة المؤسسة الأمنية خاصة في فترة التسعينيات.
اليوم وأكثر من أي وقت مضى تطرح على التونسيين مسألة الوحدة الوطنية كصمام أمان أساسي من أجل تفويت الفرصة على القوى الداخلية والخارجية المتربصة بالثورة التونسية وبمسارها الانتقالي. اليوم كذلك يطرح عليهم وعلى شباب الثورة التمسك بمطالب الثوار وبمطالب الشهداء في إطار السلمية التي برهنت على نجاعتها حملة "وينو البترول".
لن تنجح كل المساعي الانقلابية في العودة إلى مشهد ما قبل 17 ديسمبر لأن جدار الخوف الذي أسسه الاستبداد قد تهاوى ولن تنجح العمليات الإرهابية الجبانة في ترهيب التونسيين، فحركة التاريخ لا تعود إلى الوراء أبدا بل إن دروس التاريخ تؤكد أنّ القادم أفضل دائما رغم كيد الانقلابيين.