ليس شغور موقع
الرئاسة الأولى لما يناهز السنتين ولا تعطيل المؤسسات الرسمية والعمل الحكومي ما كشف عري
لبنان وفشله الحكومي والمجتمعي، بل توقف عمال النظافة في مدينة
بيروت عن العمل ليومين فقط، فكان ذلك كفيلاً بإغراق المدينة في وسخها ووضعه نصب أعين سكانها، الذين لا يعرفون كيف يواجهون أزمة من هذا النوع ولم تسعفهم خبراتهم السابقة في الاستعداد لها.
فهم أتقنوا عموما تدبير شؤونهم بمعزل عن الدولة وما توفره أو لا توفره من خدمات، حتى نشأت أجيال كاملة لم تختبر معنى الحياة اليومية ضمن شروط أساسية تؤمنها الدول لمواطنيها في أحلك الديكتاتوريات.
وسبق للبنانيين أن تحايلوا على انقطاع الكهرباء والمياه بمولدات وخزانات تعبر أحياءهم وتنهك موازناتهم ولا سبيل للاستغناء عنها. وعوضوا غياب القطاع العام ومجانية بعض خدماته كالطبابة والتعليم والضمان الاجتماعي وغير ذلك، بقطاع أهلي- طائفي، يخدم الرعايا بحسب توزعهم الجغرافي وانتمائهم الحزبي او السياسي. وصار غياب الأول يغذي ازدهار الثاني والعكس، حتى انتفت المصلحة من تعزيز دور المؤسسات العامة التي باتت محكومة بالفشل المسبق.
أما النفايات، فاكتشف اللبنانيون أخيرا أنهم لا يملكون لها حلا. فإذا بها مما يستوجب أداء حكوميا منظما لم يختبروه من قبل.
وأيقظت صور النفايات المتراكمة في بيروت أخيرا، ذاكرة المدينة في مطلع التسعينيات، مباشرة بعد انتهاء الحرب الأهلية. كان المشهد يتلخص بأكوام القمامة في منطقة الأسواق (التي تعرف اليوم بـ "سوليدير") وقطعان الكلاب الشاردة تجوب الشوارع وتثير الرعب. وكان مما استعين به آنذاك لطي صفحة الحرب، المباشرة بتنظيف الشوارع وإعدام تلك الكلاب بطريقة منهجية واحتفالية، وتوكيل القطاعات الأساسية في البلد إلى شركات خاصة، على أمل أن ينجح الاقتصاد حيث تفشل السياسة.
وأحيلت النقاشات الكثيرة والمحتدمة، التي انطلقت بحثا عن دور الدولة في حماية مصلحة المواطنين وتحديد مسؤولياتها تجاههم، إلى الأدراج، كما اعتبر من رفض من اللبنانيين تفرد القطاع الخاص بالتحكم في المرافق الحيوية، بأنه ينتمي إلى "نوستالجيا يسارية تعيش خارج الزمن".
ووضعت البلاد أمام خيارين أحلاهما مر. فإما القبول ببقاء الدمار وترك المدينة مسرحا للكلاب الشاردة وأكوام النفايات، أو الإذعان لتغوّل قطاع خاص قام على محاصصة طائفية واضحة، من دون أي ضابط يراعي مصلحة الناس في الأداء وحصد الأرباح.
واليوم جاءت أكوام النفايات المتراكمة في بيروت لتذكرنا بأن ذلك نتيجة طبيعية لسنوات من سوء الإدارة العامة والفساد في مرحلة ما بعد الحرب، لكن يبقى الأخطر أنها كشفت خللا اجتماعيا وقيميا عميقا في علاقة العاصمة بالأطراف.
ذاك أن لرفض المناطق اللبنانية استقبال نفايات بيروت، وإغراقها بها من دون أي شعور بالذنب أو بالمسؤولية، رمزية تتجاوز "تبادل الخدمات" وتوزيع الأدوار، وما سخّفه وزير البيئة بالقول إن مستشفيات بيروت وجامعاتها تستقبل المرضى والطلاب من المناطق كافة، وبالتالي على الأخيرة رد الجميل وقبول طمر القمامة لديها! فتــــحديد أدوار المناطق والمدن يأتي نتيجة لتطوير دورة إنتاج محلي تصب في صلب الاقتصاد الــعام، وتنعكس على السكان عبر خصائص ومكتسبات مهنية واجتماعية. هكذا تصنف مثلا مدن ومناطق بأنها زراعية، أو صناعية أو سياحية أو أكاديمية (مع نشأة المدن الجامعية)... إلخ. وتتحدد بموجبها علاقتها مع مركز السلطة.
أما في حالة لبنان، فالقليل الذي أنجز قبل الحرب، دمر كليا ولم ينشأ بديل عنه في فترة السلم. وبهذا يبدو توزيع الأدوار الذي اقترحه الوزير مهينا، أكثر من أي شيء آخر.
فإذا سلمنا جدلا بهذا المنطق، وهو غير منطقي في كل الأحوال، فإن جموع اللبنانيين المتوافدين إلى بيروت لاستخدام مرافقها الخدمية، يعوضون افتقار مناطقهم لتلك المرافق، كما يدفعون ثمنها غالياً من جيوبهم الخاصة لدى القطاع الخاص المدني، ولا يتلقونها مجانا من الوزير أو حكومته، وذلك لا يلزمهم بالتالي بالمساهمة في حل مشكلاته. وبهذا المعنى، ينطوي رفض طمر قمامة بيروت لديهم، على شيء من رفضها كمدينة ورفض دورها كعاصمة. فخلال عقود مضت، راقب اللبنانيون على مضض ازدهار جزيرة صغيرة جدا من بلدهم، على حسابهم وحساب مناطقهم. فكلما انتعشت بيروت، زاد عبء الدَّين العام عليهم، وأُفقرت مدنهم وتهمشت. وعليه اتخذ كثيرون موقفا معاديا من الوسط التجاري حتى أمس قريب، فقاطعوه مقاطعة تامة، وانكفأوا على أسواقهم وجامعاتهم ومستشفياتهم.
والحال أن غضبا دفينا ومتراكما على بيروت كشفته الأيام الأخيرة على نحو فج وقاسٍ. ذاك أن أبناء المناطق المهملة، لا سيما في الأرياف المهمشة والمنسية، غير معنيين بهموم مدينة لا تعترف بهم ولا ترى فيهم سوى مكب لفضلاتها حتى بالمعنى السياسي. وهم اليوم ينتقمون لذلك الدور الذي حصرتهم به عاصمتهم ورموزها، فجعلتهم خزان أصوات في الموسم الانتخابي، وجامعي قمامة على مدار السنة.
أما أبناء المناطق «المستقلة» نسبيا عن العاصمة وخدماتها، وحيث يوفر الزعماء المحليون شبكة رعاية مقبولة نسبيا، فلا يرون سببا في تحمل هذا العبء وما يخلفه من تلوث في أرضهم ومياههم وهوائهم. هكذا بدا أن ثمة إعادة رسم للفضاءين العام والخاص، واستعادة للأدوار ضمن حسابات جديدة ليست بيروت جزءا منها.
وذلك كله، إن دل على شيء فليس عن تخلي الأطراف عن المركز، بل عن قصور الأخير في أن يكون مركزا جامعا، وأن يجعل الإنماء متوازنا بما يكفي لتوزيع الأعباء والمكتسبات في شكل متكافئ. هكذا ولأسباب كثيرة، أفرغت بيروت من دورها كعاصمة لهذا الكيان المركّب الذي سمي بـ «لبنان الكبير»، لمصلحة مراكز قوة وسلطة تلتف حولها مناطق وأرياف، فتجد فيها مصالحها وتدير شؤونها وتتحمل وزر نفاياتها في لبنانات صغيرة متذررة.