تتواجه مجموعتان من
المقاتلين اللبنانيين بأسلحتهم من وراء السواتر والبراميل، في مشهد لا يجري على خط القتال الذي اعتادوا عليه في مدينة طرابلس شمال لبنان، بل على خشبة
مسرح في بيروت في عمل فني يرمي إلى المصالحة بين الإخوة الأعداء ودفن الأحقاد الطائفية.
ويؤدي هؤلاء الشبان المشاركين في
مسرحية "
حب وحرب عالسطح- قصة طرابلسية" أدوارا لا تختلف عما يعيشونه في الواقع اليومي بين منطقتي باب التبانة ذات الغالبية السنية، وجبل محسن ذات الغالبية العلوية، في مدينة طرابلس كبرى مدن الشمال اللبناني.
ويعود التوتر بين المنطقتين إلى سنوات الحرب اللبنانية (1975- 1990)، لكن اندلاع الاحتجاجات في سوريا المجاورة ومن ثم النزاع المسلح، عمق من حدة التوتر بين أبناء التبانة المتعاطفين بمعظمهم مع المعارضة السورية، وأبناء جبل محسن الموالين بمعظمهم لنظام الرئيس بشار الأسد.
ولذا، فقد شهدت المنطقة توترات سياسية سرعان ما اتخذت بعدا مذهبيا وتحولت إلى جولات متعاقبة من الاشتباكات المسلحة بين اثنتين من أكثر مناطق لبنان بؤسا وتهميشا.
ومع توقف جولات القتال وتدخل الجيش اللبناني كل مرة للفصل بين المتقاتلين في ظل جهود سياسية مواكبة، فإنها لم تزل الحواجز النفسية بين الجيران المتخاصمين في ظل عدم بذل جهود جدية للمصالحة الحقيقية.
في هذه الظروف، قررت منظمة "مارش" غير الحكومية جمع عدد من شبان المنطقتين، ومنهم من شارك فعلا في القتال، في عمل مسرحي يهدف إلى التقريب بين الجماعتين والسير على خطى المصالحة.
ويقول طارق هباوي (24 عاما) من باب التبانة لمراسلة وكالة فرانس برس: "في البدء كنت مترددا، لم أكن استسيغ فكرة المشاركة في شيء مع شباب من جبل محسن لأنهم كانوا كلهم بنظري زعرانا (سيئين)".
ويضيف: "لكني أدركت بعد ذلك أن هناك أشخاصا جيدين في جبل محسن كما أن هناك أشخاصا جيدين في باب التبانة".
وتروي المسرحية حكاية مخرج يحاول إنجاز مسرحية عن شاب يدعى علي من جبل محسن، يقع في حب شابة اسمها عائشة من باب التبانة.
ولاقى العرض ترحيبا واسعا من الجمهور في بيروت مقدما التحية وقوفا لفريقها، فيما كان بعض الممثلين المقاتلين يكفكفون دموعهم على المسرح.
ويقول مخرج المسرحية لوسيان بورجيلي: "لقد أوجد المسرح مساحة مشتركة جمعت بينهم، وجعلتهم يتكلمون ويتناقشون".
ويؤيده أحمد سليمان (24 عاما) من جبل محسن قائلا: "لقد أصبحنا عائلة، الحمد لله صرنا نجلس معا، ونذهب إلى باب التبانة وشبابها يأتون إلينا.. الحمد لله".
إلا أن إنجاز هذا العمل لم يخل من التحديات، وأولها أن شباب جبل محسن لم يقدروا على الوصول إلى الاجتماع الأول للممثلين بسبب اندلاع جولة من جولات العنف، وفي الاجتماع الثاني كانت الحواجز النفسية بين المجموعتين أعمق من أن تتركهم يختلطون وينسجمون.
لكن بعد ذلك، ومع الشروع في كتابة العمل بناء على القصص التي رواها كل منهم فقد "لاحظوا أنهم متشابهون وأن مشكلاتهم ومعاناتهم متشابهة، وأنهم يحبون ويبكون ويحزنون بالطريقة نفسها".
يأمل طارق هباوي أن تنسحب هذه التجربة على غيره من الشباب ليدركوا قيمة المعرفة والتعارف والحوار بعيدا عن السلاح.
تنوي منظمة "مارش" حاليا فتح مقهى بين الحيين المتجاورين يديره الشباب المشاركون في المسرحية، على أمل أن يشكل مساحة لنسج العلاقات بين أبناء المنطقتين وإطلاق مشاريع وأنشطة مشتركة تجمع شباب التبانة وجبل محسن بدلا من أن يجتمعوا على خط القتال.
ويشدد القيمون على المنظمة والعمل المسرحي أن دوافع القتال الحقيقية في المنطقة ليست طائفية، وإنما الخطاب السياسي المشحون بالتوتر والبطالة والبؤس، ما يجعل الشباب فريسة للوقوع في دائرة العنف.
وتقول ليا بارودي رئيسة جمعية مارش: "ثمة من يقول إن المشكلة طائفية، ومن يقول إنها صراع إقليمي، ومنهم من يقول إن المشكلة هي الأصولية"، لكن المشكلة الحقيقية "هي عدم وجود فرص عمل".
وتدعو السياسيين إلى العمل على مكافحة البطالة لإخراج الشباب من دوامة العنف.
وتتهم بارودي والشباب الممثلون، السياسيين بتأجيج التوتر وتقديم العون لتشكيل مجموعات مسلحة.
ويقول طارق، إن "أهم رسالة للسياسيين أن يكفوا عن التفرقة وتأجيج الوضع كما كانوا يفعلون".