قالوا إنها ليست أكثر من "إشارة مرور" في سياق سخريتهم من المتظاهرين فيها، ولتأكيد قلة أعدادهم في مواجهة الطوفان الذي خرج غطاء للانقلاب العسكري، بحسب ما أظهرت كاميرا "خالد يوسف"، الذي كان يقوم بعمله من خلال طائرة حربية، في زمن صارت فيه للطائرات مهام أخرى غير الإغارة على قوات العدو، وقد تتطور التجربة فيصبح لأي مواطن الحق في استئجار طائرة لتصوير حفل "طهور ابنه البكري"!.
بيد أن "رابعة" كشف أن حديث الملايين التي خرجت كذب مفضوح، بدليل أن "إشارة مرور"، أطارت النوم من عيونهم، وكانت أكبر كثيراًمن محاولاتهم الفاشلة للتقليل منها، فارتكب "عبد الفتاح السيسي" جريمته التي صنعت منها "حالة"، كل يصفها بحسب ثقافته، لكن أحدا لا يستطيع الآن أن يقول إنها مجرد "إشارة مرور"، وهل تستحق بؤرة إلى طلب للتفويض، ينتهي بارتكاب جريمة غير مسبوقة في التاريخ
المصري، وعلى نحو فاق جرائم الصهاينة ومن استعانوا بهم، ومن مذبحة "صبرا وشاتيلا"، إلى "بحر البقر"، إلى "قانا"!.
"رابعة" هي حالة ثورية، عند البعض، وهي بقعة إيمانية عند آخرين، لكنها عندي نور تنزل من سماء الطُهر الثوري، ليخبر الطيبين منا بالمكان الذي ينبغي أن يتجمعوا فيه، وليغسل ثورة يناير من الأدران التي علقت بها، فلم يكن كل من شارك في ثورتنا أخيارا، فقد كان منا من يريد الدنيا، وكنا طرائق قددا، منا الصالحون ومنا دون ذلك، وكان الانتهازيون في "ميدان التحرير"، هم ثغرة الثورة التي تمكن المجلس العسكري عبرهم من ركوبها، وسط عزف على أوتار الجيش الذي حمى الثورة، والذي خرج ليواجه التوريث، والذي لم يستجب لدعوة مبارك بإطلاق النار على الثوار المتظاهرين. وهو كلام ثبت أنه من الأساطير التي جرى ترويجها ورد عليها قائد الجيش المشير طنطاوي في شهادته التي استهدفت براءة مبارك وأركان حكمه، فلم يكن هناك مشروع للتوريث، ولم يأمرهم مبارك بشيء فيرفضونه، وأن يناير مؤامرة على مصر، وأن الجيش لم يطلب منه التنحي!.
وجد الناس أنهم بحاجة إلى الطُهر فكانت "رابعة" مقصدهم، فجاؤوا إليها من كل فج عميق، ومنهم من جاء متفرجا، بدافع حملة الإبادة الإعلامية، لعله يرى "نكاح الجهاد"، وهناك اكتشف أنه ذهب بعيدا، فقد تحول التحرير في يوم 30 يونيو وما بعده إلى ميدان للتحرش، وسط وصلات الرقص، على نحو ابتعدت معه كاميرات التلفزيون من نقل كلمات المتحدثين على المنصة، لأنها كان تشير إلى ما يحدث في الميدان الذي أساء إليه نظام مبارك وقد استمر يحكم بعد قراره بالتنحي، وسعى لابتذال ميدان "رابعة" كما فعل مع "ميدان التحرير" ، ففشل، لتكون "رابعة" هي أزمته، يكفي أن ينزعج لأن طفلا شكل بيده الصغيرة شارتها، ويكفي لإدانة تلميذة صغيرة بقرار من سلطات التحقيق، أن يضبطوا معها جسم الجريمة متمثلا في "مسطرة" رسمت عليها "شارة رابعة".
لم تكن "رابعة" عند كثيرين ميدانا للثورة، لكنها كانت مجالا للتطهر، فذهبوا إليها بلقيمات تقيم أصلابهم، فما إن يأتي موعد الإفطار أو السحور حتى يضعن هذه اللقيمات في "غموس" لا يزيد في العادة عن "جبن قديم" ثم شربة ماء، فلا يريد المرء أكثر من هذا فقد ترك الدنيا وزخرفها وجاء بحثا عن الطهر والغفران.
ولم أشاهد هذه الوقائع لكني سمعتها، فلم أذهب إلى هناك مطلقا فقد حاولت، فتمكن مني ثأر شخصي، فكيف أذهب إلى هناك لأجد أمامي من تسببوا في غضبي، قبل أن تحدث المجزرة التي ستظل ليوم القيامة تؤرق الضمير الإنساني فنزع الله ما في صدري ، ورددت قول الشاعر:
محا الموت.. أسباب العداوة بيننا!
عندما كنت أهم بالذهاب فتحول الخصومة بيني وبين ذلك، كنت أقول: هذا قسمتي فيما أملك، فلم تكن هذه الخصومة سببا يحول دون رفضي الانقلاب من أول لحظة، ولم أخن بسببها ثورة شاركت فيها، وحلمت مع كل المصريين بمصر الأفضل، وإذا كان هناك من أخطاء ارتكبت فالديمقراطية فيها حل لكل مشاكلها.
عذري كذلك، أنني كنت أدافع عن "أهل رابعة" في مواجهة الذين يبغونها عوجا ويقللون من أعدادهم، ويعلنون أنها ليست أكثر من "إشارة مرور"، فهي صوت الثورة الحقيقي، فالذين ذهبوا لميدان التحرير ممن شاركوا في ثورة يناير ومع قتلة الثوار ورجال مبارك كتفا بكتف، لا يمكن أبدا أن يعبروا عن ثورة يناير.
في أكثر من مرة كنت أدخل استوديو "الجزيرة مباشر مصر" لنسهر مع المتظاهرين في "رابعة" وعندما نخرج من الاستوديو نكتشف أن شمس الصباح قد أضاءت الأرجاء، وفي مرات أخذنا مشهد "رابعة" ونسينا أن نتناول سحورنا، وفي مرات كان السحور متأخرا وهو "بواقي أكل"، فقد سحرنا هناك الركع السجود.
عدت من الدوحة قبل الفض، وهالني ما سمعت، فقد بدا لي أن مصر جديدة تتشكل، وأن الثورة المصرية تنفي خبثها، وقد ألقت ما فيها وتخلت.
هناك من لم يشاركوا في ثورة يناير، وربما لم يكونوا مؤيدين لها، كانوا في "رابعة"، فقد كنا أمام حالة نقاء ثوري تتشكل وتمثل موقع فرز يميز الله به الخبيث من الطيب!.
صديق كان ضد حكم مرسي، قال لي إنه هناك كل يوم، وعندما وجدني في دهشة لما يقول، حكىلي كيف إن شقيقته ميسورة الحال، قد أقامت لها خيمة في الميدان، تغادر إلى عملها، وتعود منه إلى الخيمة، فيغادر أبناؤها لساعات ثم يعودون إليها ليكملوا "السهرة" هناك، وكأنهم في مهمة عمل!.
فلم تكن تنتمي للتيار الإسلامي، ولا أظنها تحمست لثورة يناير، ولا أعتقد أنها انتخبت مرسي، أو أي من المرشحين الإسلاميين في الانتخابات البرلمانية، ومثلها كثيرون وكثيرات.
كانت مصر التي لا نعرفها في "رابعة"، للدقة فإنها مصر التي فوجئنا بها، واكتشفنا أن شعبنا كان يريد فرصة، ليظهر نبله، وكانت "رابعة" هي مكان هذا النبل، فتجمع فيه بعد أن عثر على إنسانيته في ظروف لم تكن أبدا غامضة.
ومرة أخرى أفكر في الذهاب، فأتردد وأتراجع، فقد كنت غاضبا لنفسي، ولست بمأمون الرضا، فكيف أكون مأمون الغضب؟.
ذات صباح أيقظني صديق:
افتح التلفزيون بسرعة، لقد بدأ فض "رابعة"!.
هو نفسه الذي أيقظني من نومي ليطلب مني فتح التلفزيون في يوم إعدام الرئيس العراقي صدام حسين.
وبعد قليل اتصل بي من "ميدان النهضة"، وهو يعد تقريرا لإحدى الوكالات الأجنبية.. كان في دهشة وقد وصل بعد الفض لكنه فوجئ بجثث محروقة!.
وقد علمنا بعد ذلك أن إحراق الجثث كان ضمن خطة الفض، والجريمة كانت أكثر وضوحا في "رابعة" لكثرة المعتصمين وكثرة الشهداء، والحضور الإعلامي الضخم!.
كان يوما كاشفا بأن الذي استولى على حكم البلاد بانقلاب عسكري، ليس صاحب وجهة نظر، وليس فقط شخص يبحث عن السلطة ولكنه أكبر من مجرم حرب في العصر الحديث!.
وكان الغرب قد دفع به للانقلاب على السلطة الشرعية متواطئا معه في هذه الجريمة أيضا، فلم يكن لمثله أن يقدم على هذه الخطوة لولا الضوء الأخضر الذي مهد له الطريق لارتكاب هذه المجزرة وغيرها، وكان القائمون على الاعتصام يتمتعون بحسن النية!.
كانت الدعاية أن المعتصمين في "رابعة" يملكون السلاح، وبالغوا هم في إظهار السماحة، ودعا زملاء شكلوا "حركة صحفيون ضد الانقلاب" من يريد أن يتأكد من خلو الميدان من السلاح فإن مهمتهم تأمينه ليتأكد بهذا بنفسه.. وكان هذا الباب الذي دخل منه الشيطان!.
وجاءت رأس الفتنة "كاثرين آشتون" إلى الميدان بحجة التفاوض، والوقوف على أن الميدان خاليا من السلاح، ولما تأكدت غادرت، لتكون مغادرتها هي بمنزلة الضوء الأخضر للفض.
لقد قابلت "رأس الفتنة" الرئيس محمد مرسي في مكان اختطافه الذي وضع فيه دون مسوغ قانوني، وتعاملت كما لو كانت قامت بزيارة شخصية، فلم تبح بما جرى فيها، وكان هذا كاشفا عن أنها ضالعة في المؤامرة، وجاءت التسريبات لتفيد أنها كانت هناك لتخبره أن "العالم الغربي" مع الانقلاب، لعله يهتز أو يضعف فيقبل بالدنية في أمره، فلم يفعل، فقد كانت الزيارة بهدف الضغط ممن تمثل الاتحاد الأوروبي كله، ولم تستنكر أي دولة من دول الاتحاد الدور الذي قامت به آشتون وهي تمثل جهة رسمية، فلم تكن في زيارة سياحية للقاهرة.
لقد ارتكب عبد الفتاح السيسي جريمته، ومن سوء حظه أنها مسجلة بالصوت والصورة، على عكس مذابح أصدقائه في تل أبيب.
وتحولت "رابعة" إلى "كابوس" يطارد الانقلابيين وأذنابهم، وانبعث من يطلبون شرطا للاصطفاف أن يتنازل الإخوان عن "شارة رابعة"، وينزلوا صور محمد مرسي. وقد أفهم رفضهم لمطلب عودة الرئيس الشرعي، لكني لم أكن أستوعب مطلب "شارة رابعة"، وهي جريمة ضد الإنسانية، وتمثل هزيمة للانقلاب من أول جولة، لكني بعد تفكير وقفت على أن "رابعة" هي جريمتهم أيضا.
لقد خرجوا في 30 يونيو، ولم تكن الدعوة فيها لانتخابات رئاسية مبكرة كما ادعوا، ولكنهم خرجوا ليخونوا الثورة ويمكنوا العسكر من أن يزنوا بها؟
وعندما طلب السيسي التفويض لارتكاب جرائمه، كانوا من الذين فوضوه، وكانت "رابعة" هي ثمرة لهذا الخروج المجرم.
يريدون من الإخوان أن يتركوا ما في أيديهم ويبحثوا عما في جيوبهم من اصطفاف مراوغ، لن يتم في الغرف المكيفة ولكن في ميدان التحرير، وقبل هذا سوف نستمع إلى ما يشبه "دلع البنات" من الذين يريدون من الإخوان أن يغسلوا لهم عارهم الذي لحق بهم بمجزرة "رابعة"!
فيتصرفون بهذا الطلب، كمن يتخبطه الشيطان من المس، وهو نفس تصرف نظام السيسي وهو يتخبط، فيظن أنه بتغيير اسم الميدان إلى "هشام بركات" فقد محا العار وأزال آثار الجريمة.
وكما أن "رابعة" هي عار لحق بكل من شارك في جريمة فضها ولو بشطر كلمة، فإنه ستظل درة التاج بالنسبة لثورة يناير، وشرفا لكل من استشهدوا فيها ولكل من شهدها.
شهداء ثورة يناير فيهم وفيهم، وعند الجرد كان التشويه بوجود مسجلين خطر بين من قتلوا في الأيام الأولى للثورة.
ولا يوجد في شهداء "رابعة"، رد سجون واحد!
ولا يوجد بينهم مسجل خطر واحد
ولا يوجد بينهم فاشل واحد
ولا يوجد بينهم من سُجل عليه أنه لم يكن جيرانه يسلمون من لسانه ويده!
شهداء "على الفرازة" هم خير من فينا، ارتفعوا على أيدي أسوأ من فينا.
فسلام على رابعة في العالمين.
والسلام هنا دعاء
[email protected]