لم تكن أحداث
الربيع العربي لتمر هكذا سريعا، من غير أن تُحدث هزات قوية في الفكر الديني، دافعة بعض قضاياه القلقة إلى صدارة الجدل من جديد، والتي لم تفارق صورها التاريخية المعهودة والمتراوحة خياريِّ التسليم بواقع الظلم القائم والصبر عليه، ونزع اليد من طاعة ولي الأمر الظالم والخروج المسلح عليه.
في غمرة الصراع المحتدم بين أرباب الخيارين السابقين، تشبث كل طرف منهما بدعوى أنه الممثل الحقيقي لتعاليم الإسلام وأحكامه. وكالعادة، فإنه في أي جدل ديني فإن أتباع كل اتجاه يسارعون إلى حشد الأدلة الشرعية التي تسند رأيهم وتظهر صواب موقفهم.
وعمد دعاة الصبر على الظلم السياسي القائم إلى استدعاء أدلة شرعية يرونها صريحة في الدلالة على ما قرروه واختاروه، ففي حديث نبوي شاهد – إلى جانب أدلة أخرى بالطبع - لأرباب ذلك التوجه، يقول الرسول عليه الصلاة: "ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها، قالوا: يا رسول الله، فما تأمرنا؟ قال: تؤدون الحق الذي عليكم وتسألون الله الذي لكم".
يشرح الفقيه السعودي المعروف الشيخ محمد بن صالح العثيمين، معنى كلمة "الأثرة" الواردة في الحديث بأنها "تعني الاستئثار عمّن له فيه حق، يريد بذلك أنه يستولي على المسلمين ولاة يستأثرون بأموال المسلمين يصرفونها كما شاءوا، ويمنعون حقهم فيها..".
يتابع الشيخ العثيمين: "وهذه أثرة وظلم من الولاة؛ أن يستأثروا بالأموال التي للمسلمين فيها الحق ويستأثروا بها لأنفسهم على المسلمين، ولكن قالوا: ما تأمرنا؟ قال "تؤدون الحق الذي عليكم" يعني لا يمنعكم استئثارهم بالمال عليكم أن تمنعوا ما يجب عليكم نحوهم من السمع والطاعة وعدم الإثارة وعدم التشويش عليهم". بل اصبروا واسمعوا وأطيعوا ولا تنازعوهم الأمر الذي أعطاهم الله.. وأسألوا الله أن يهديهم حتى يؤدّوكم الحق الذي عليهم لكم".
أما دعاة ازالة "السلطة الظالمة" بالخروج المسلح عليها، فاستشهدوا بعموم أدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، "وبالآيات التي تحذر من الظلم وتبين خطره العظيم، وعواقبه الوخيمة، وفيها دلالة على أمر الشريعة بالسعي في إزالة الظلم، وتحقيق العدل بكل سبيل، ولو بالقوة"، بحسب استدلالاتهم.
ويؤكد الداعية الكويتي حامد العلي، أن "هذه الآيات تشمل ظلم السلطة"، مستدلا بقوله عليه الصلاة والسلام: ".. ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن..."، موردا قول ابن رجب الحنبلي: "وهذا يدل على جهاد الأمراء باليد".
وفي الوقت الذي ظلت فيه التجربة الإسلامية التاريخية مقيدة بأغلال الخيارين السابقين، فقد استطاعت أمم الأرض الأخرى اجتراح نماذجها في إرساء تقاليد صارمة في بناء السلطة وتداولها، وألزمت حكامها بالتقيد الكامل بدساتيرها، والالتزام التام بقوانينها، بحسب باحثين في مقارنة الأديان والحضارات.
فلماذا تقاصرت أمة الرسالة الخاتمة عن بلوغ ما بلغته الأمم الأخرى في نظامها السياسي؟ ولماذا عجزت الأمة بعلمائها ورجال الرأي والفكر فيها عن تجذير السنة السياسية الإسلامية الراشدة، وفق نموذجها القرآني والنبوي والراشدي، ليترسخ في أوساطها نهج التغلب والتسلط، وليشيع في مجتمعاتها الظلم السياسي الذي لا تملك الرعية في مواجهته إلا الصبر عليه، مع تفويض أمرها إلى الله؟
فقه بليد وسلطة متسلطة
في تشخيصه لشيوع هذين النمطين في زماننا، بجذورهما الضاربة في التجربة التاريخية الإسلامية، أرجع الدكتور اليماني الفخراني، مدرس العقيدة والفلسفة الإسلامية في جامعة الأزهر أسباب ذلك إلى ما أسماه بـ"الفهم السقيم لنصوص الشريعة والذي أنتج فقها بليدا" من جهة، وإلى وجود سلطة سياسية متسلطة قمعت شعوبها وحكمتها بالبطش وجبروت القوة من جهة أخرى.
ووفقا للفخراني، فإن اللوم ينبغي أن يتجه للفقهاء الخاضعين، وللحكام الجبابرة المتسلطين، وليس للشريعة ونصوصها، ولا يصح إلقاء تبعة الأوضاع عليها، مؤكدا أن نصوص الشريعة الغراء لم تأت بالخنوع والذلة لأي حاكم، وهي في الوقت نفسه لم تأت بالطيش والسفة للإطاحة بكل حاكم، ولكنها أتت بنصوص واضحة محددة تفهم في سياقاتها الصحيحة.
وجوابا عن سؤال "
عربي21" بشأن توضيح تلك السياقات وحيثياتها، أوضح الفخراني أن النصوص الشرعية حينما تتحدث عن الصبر على حاكم أو أمير وقعت منه مظالم، فإنها تتحدث ابتداء عن حاكم جاء به أهل الحل والعقد، أو قبلوا به، ولم يأت به الفرس أو الرومان.
وأضاف الفخراني أن "النصوص التي تأمر بالصبر على ظلم ولي الأمر، إنما تتحدث عن ذلك الحاكم الذي كان من مهامه حماية بيضة الإسلام، وتطبيق الشريعة، وتسيير الجيوش لفتح البلاد لنشر الإسلام والدعوة إليه، فإذا ما وقع منه ظلم للرعية، كيف يتعامل معه المسلمون حينذاك، هنا وقع الخلاف بين الفقهاء في الصبر على مظالمه أو الخروج عليه لإزالته والتخلص من ظلمه".
وتعجب الفخراني من صنيع بعض الاتجاهات الدينية التي "تُنزل ما جاء في شأن أولئك الأمراء الشرعيين، على حكام الجور في زماننا، الذين حاربوا الشريعة، وطبقوا العلمانية، ولم يدافعوا عن بلاد المسلمين، وتعاونوا مع أعداء الإسلام، ولم يكن توليهم للسلطة باختيار الأمة لهم ابتداء، أو رضاها عنهم"، متسائلا: "كيف يكون الموقف من هؤلاء هو نفس الموقف من حكام الأمس؟".
الخروج مرهون بالقدرة والصبر عند فقدها أولى
من جهته، أوضح الأكاديمي الشرعي السوري، المتخصص في الحديث النبوي وعلومه، الدكتور عداب الحمش أن النصوص الشرعية الواردة في طاعة ولي الأمر، إنما تسري على ولي الأمر "المجتهد الصالح" الذي اختاره أهل الحل والعقد، ورضوا به وبايعوه.
وتابع الحمش حديثه لـ"
عربي21" قائلا: "حتى ذاك (المجتهد الصالح)؛ فإن طاعته محصورة في المشروع المعروف عند المسلمين لقوله عليه الصلاة والسلام (إنما الطاعة بالمعروف)، أما الحكام المتغلبون الجورة؛ فطاعتهم بالمعروف عند أهل السنة واجبة اضطرارا، وليست مشروعة في أصلها وهم آثمون بتغلبهم هذا".
ورأى الحمش أن "الشرعية لا تثبت لحكام المسلمين المعاصرين، وأن طاعتهم ليست واجبة على أحد؛ لأن من المقطوع به أمرين، الأول عدم كفايتهم الشرعية، والثاني أنهم متغلبون بدعم أعداء الأمة وحمايتهم لهم".
وحول الطرق الممكنة لتغيير السلطة الظالمة، أوضح الحمش أن المسألة برمتها متعلقة بالقدرة على مقارعة الظلم وأهله، متسائلا: "من أين يأتي المسلمون بالقدرة اللازمة لمقارعة الجيوش المدافعة عن تلك الأنظمة (المدعومة من دول كبرى)، مرجحا خيار الصبر على المجرمين باعتباره أولى من دمار البلاد وهلاك العباد".
وفي السياق ذاته، أكدّ الباحث الكويتي المتخصص في تاريخ الفكر الإسلامي، مهنا حمد المهنا أن شرعية الحاكم وطاعته لا تكون إلا بشرط "قيامه بكتاب الله" مستشهدا بحديث "اسمعوا وأطيعوا ولو أمر عليكم عبد حبشي ما أقام فيكم كتاب الله". وبمفهوم المخالفة، فإنه إن لم يقم بالأمة بكتاب الله فلا سمع له ولا طاعة طبقا للمهنا.
وفي رده على سؤال "
عربي21" هل تستلزم عدم الطاعة الخروج المسلح على الحاكم، قال المهنا: "ثمة فرق بين عدم الطاعة والخروج المسلح على الحاكم الذي لا يحكم بالشرع"، مشيرا إلى أن الخروج المسلح لا يكون إلا بالقدرة عليه.
بين الثنائيات المتضادة.. هل من خيارات آخرى؟
هل ثمة خيارات أخرى يمكن لأصحاب الرأي والفكر اجتراحها لإخراج الأمة من ضيق الخيارين السابقين، بعد أن أثبت خيار الصبر على السلطة السياسية الظالمة عدم جدواه، وأنه لا يعدو أن يكون لونا من ألوان التخدير، ومؤداه تبرير القائم ومده بماء الحياة، وفي الوقت نفسه خطورة خيار الخروج المسلح لما يفضي إليه من مفاسد عظيمة في حالة اختلال شرط القدرة وعدم كفايته؟
يرى أستاذ الإعلام الإسلامي في جامعة اليرموك الأردنية، الدكتور عايش لبابنة، أن "خيار الصبر على السلطة السياسية الظالمة لم يعد مقبولا في أوساط الشعوب المسلمة، وبات أمرا ممجوجا، إذ إنه ما الذي يجعلها تستسلم لهذا الواقع البائس، وهي ترى أمم الأرض تتمتع بحرياتها، وتنعم بخيرات بلادها، وتمارس حقوقها؟".
وطبقا للبابنة، فإن خيار الخروج المسلح مع أن الخلاف حوله قديم في الفقه الإسلامي، وقد مارسه أئمة من آل البيت وغيرهم في الممارسة التاريخية الإسلامية، مفاسده كبيرة في حالة عدم توفر شرط القدرة وكفايتها ما ينتج عنه ما لا تحمد عقباه.
وجوابا عن سؤال "
عربي21" حول إمكانية اجتراح خيارات أخرى يمكن أن تخرج الأمة من ضيق الخيارين السابقين، فقد دعا لبابنة علماء الأمة ومفكريها ورجال الرأي فيها إلى ضرورة التفكير الجاد من أجل بلورة خيارات أخرى قابلة للتطبيق.
وأشار لبابنه إلى أن الانطلاقة تكون بتعميق الوعي في أوساط الأمة، لإنضاج حالة المطالبة بالتحرر من الاستبداد، حتى تغدو مطلبا شعبيا عارما، تلح قطاعات واسعة من الشعوب الإسلامية على إنجازه وتحقيقه.
ويرى المفكر السوري خالص جلبي أن "أجمل ما صاغه الكواكبي في وصفة الخلاص من الاستبداد الانتباه إلى أن تغيير الحاكم ليس شرطا لإنهاء الطغيان، بل وضع الكوابح أمامه.. ذاكرا أن الملكة فكتوريا كانت تتمنى لو تحكم عشرة أيام على هواها".