انقطعتُ عن الكتابة لثلاثة أسابيع منذ أن بدأ هذا الشهر. فشهر أغسطس مرآة صعبة لكل من كان مرتبطا بالثورة
المصرية في 2011، في أغسطس من العام نفسه، حاولنا ولم ننجح أن نوحد أقطاب المعارضة ليخوضوا الانتخابات بمرشح واحد، وفي أغسطس من العام التالي أقال الرئيس المنتخب قادة المجلس العسكري وألغى الإعلان الدستوري الذي أصدروه قبل انتخابه بأيام لتكبيله، وظننا أنه أصبح مطلق اليدين، وأن المدنيين يقودون العسكريين كما هو الحال في كل بلاد الدنيا الطبيعية، فخاب ظننا، وخرج ذلك الرئيس ليؤكد أنه يقود عمليات الجيش في سيناء، التي قال المتحدث العسكري أنها تجري بالتنسيق الكامل مع إسرائيل. ثم في أغسطس من العام التالي، عام 2013، كان ذلك الرئيس معتقلا من قِبَل من اختار التحالف معهم وعينهم وزراء، وجرت في القاهرة أكبر مقتلة عرفتها المدينة منذ الحملة الفرنسية، معلنة بذلك هزيمة كل القيم التي قامت الثورة من أجلها، وعلى رأسها حق الناس في الاعتصام والتظاهر وعصمة دماء العزل.
إن التفجع على ما أصابنا ويصيبنا لن يفيد، بل ربما يكون المفيد النظر فيما يمكن أن يخرجنا من كبوتنا، وإنني ما زلت أعتقد أن الفشل لم يكن بسبب الشباب من القوى السياسية كافة، بل بسبب قياداتهم. فقد كان المعارضون القدامى مقتنعين بنموذج الدولة، وبالحفاظ على بنيتها الهرمية، واقتباس هذه البنية، القائمة على الأمر والانصياع، وثنائية المطيع والمطاع، في أحزابهم وتنظيماتهم. ورفضهم أن يكون على قمة الهرم إلا هم، فما كان أكثرهم قابلين بفكرة القيادة الجماعية، بل كانوا يرونها بدعا، وإني أستثني من ذلك عبد المنعم أبو الفتوح فهو لم يرفض أي عرض للقيادة الجماعية طرح عليه خلال هذه الفترة. أما الشباب فكانوا تجاوزوا هذه البنية الأحادية، وكانوا من أكثر الناس قابلية للعمل معا، لو لم تعقهم قياداتهم، منذ اليوم الأول للثورة في يناير 2011.
إننا اليوم نواجه انهيارا شاملا في العالم العربي، وخروجا كاملا للشباب العزَّل من التأثير في المشهد السياسي، وسيحل محلهم صراع بين المسلحين الرسميين والمسلحين غير الرسميين، وهذا هو تعريف الحرب الأهلية، سواء كانت في أطوارها الأولى، وسماها الناس اضطرابا أمنيا، أو في أطوارها اللاحقة، حيث يغرق البلد وسكانه في دخان كثيف لا يعرف المرء فيه عدوه من حليفه.
إن ما كان صوابا في أول هذه الثورة، يبقى صوابا اليوم، ثقة الأعزل في الأعزل. وإنني أعرف أن هذا أصبح صعبا بعد ما جرى بين الناس من دماء أحبتهم، ولكن هذه الدماء جرت تحديدا؛ لأن الأعزلَين لم يثق أحدهما بصاحبه، ووثق كل منهما بالعسكر في مرحلتين مختلفتين.
إن قيادة جماعية، متحدة على خطاب ثوري واحد، هي الأمل الوحيد الباقي ليكون للشعب المصري الأعزل قول في سياسة بلاده. وللخطاب المطلوب صفتان: أن يكون جامعا وأن يكون ثوريا. بمعنى أن يتشدد فيما لا يختلف الناس فيه، وأن يلين فيما يختلفون فيه. وإذا استثنينا فلول نظام مبارك، الذين ما عادوا فلولا بل عادوا حاكمين، فإن الإسلاميين والقوميين والشيوعيين والليبراليين في مصر مجمعون، ظاهريا على الأقل، على ما يلي: معاداة الصهيونية في السياسة الخارجية، المطالبة بالعدالة الاجتماعية في الاقتصاد، وحماية حقوق الإنسان من تغول الأجهزة الأمنية في السياسة الداخلية. إن خطابا سياسيا يؤكد هذه المبادئ الثلاثة ويجمع الشباب من القوى كافة، يمكن أن يشكل نواة لتحرك واسع على الأرض.
أعرف أن هذا الكلام مكرر، ولكنه لو جرب لما كان ثم داع لتكراره. لقد جرب الإسلاميون التحالف مع العسكر في 2011 و2012 فانتهوا في السجون، وجرب التيار المدني التحالف مع العسكر في 2013 فانتهوا بين مسجون ومنفي وممنوع من السفر، أما حين جرب الإسلاميون وسائر قوى التيار المدني الوحدة، ولو للأيام، في الشهرين الأولين من عام 2011، غيروا تاريخ مصر، وأصبحوا، لولا خلافهم الوشيك، حكام البلد. وما خسروا حكم البلد إلا لأنهم رفضوا أن يحكموا معا.
إن كانت هذه السنوات علمت الطرفين شيئا، فهو أنهم إما أن يكونوا سويا في الشارع فيكونوا سويا في الحكم، أو أنهم سيكونون سويا في السجون أو فيما هو أسوأ منها.