ألا ترين شيئا حقيقيا أبدا قد حدث طوال السنوات الماضيه؟
ألا توجد إيجابيات قط.. كلها سلبيات؟!
كان هذا التساؤل الذي طرحه بإنفعال أحد القراء حينما تحدثت عن حالة الانهيار التي وصلنا إليها في كل شيء طوال الحكم العسكري لمصر وعن الكأنها دولة والكأنها وزارات والكأنها مؤسسات والكأنها والكأنها والكأنها..
من قال ذلك؟ بل أرى يا سيدي..
أرى..
أرى الدماء حقيقية..
أرى كل من خرجوا في الثورة الحلم في 25 يناير يهتفون "عيش حريه عداله اجتماعية"، فباغتتهم قتلا وسحقا وتنكيلا وتعذيبا وخذلانا مريرا..
أرى الإيجابية التي تتحدث عنها في كل من هتف وما زال ويهتف رغم الجنون الذي نعيشه "يسقط يسقط حكم العسكر"..
أرى
الشمس مختبئه خلف أسوار المعتقلات وأبواب الزنازين..
أرى الشمس في كل من قرر أن ينجو من السير خلف القطيع..
أراها في كل من لا يزال يسبح لله في وطن أصبح جُل من فيه يسبح للسلطان أو للشيطان لا فرق
أراها كلما رأيت صور هاله وسندس وحبيبة..
أرها فيمن قرر أن يدفع حياته ثمنا لدفاعه عن فكره رغم أنه كان من السهل عليه أن يصمت ويبتعد ويقف علي ما يُسمي بالحياد إذ أنه أدرك أنه لا حياد بين قاتل ومقتول ولا بين طعنة سكين وقلب ذبيح ولا بين قناص دموي مجنون وبين طائر يُحلق وينشد
حرية..
أراها علي مدار تاريخنا كله..
أرى الشمس وراء الغيوم.. لكنني أراها..
أراها مع العز بن عبد السلام يوم أن أفتي فتواه المدوية حين قال إن أمراء المماليك عبيد ولا يحق لهم ما يحق للأحرار و إذا به يطالب ببيعهم وأن توضع الأموال في بيت مال المسلمين فيُجن جنون المماليك حتي ينصحه أحد أبنائه بعدم التعرض لهم خشية عليه فيرد قائلا " أأبوك أقل من أن يُقتل في سبيل الله؟!"..
أراها في ذلك الشاب الورع الذي يبلغ عمره أربعة وعشرين عاما وقت أن يتنكر في زي شحاذ ويقترب من قائد الحملة الفرنسيه في مصر الچنرال "كليبر" ليطعنه عدة طعنات قاتله.. ذاك الشاب الذي وضعوا جمجمته في متحف بفرنسا وكُتب علي لوحة بجواره "المجرم" "سليمان الحلبي" في حين وضُعت جمجمة "كليبر" في متحف آخر وبجوارها لوحة كُتب عليها "جمجمة البطل".. أرى الشمس يا سيدي بازغة من جمجمة كُتب بجوارها.. "المجرم".
أراها يوم 22 تموز/ يوليو 1882م في إجتماع يُعقد في وزارة الداخليه المصريه يحضره خمسمائة من أعضاء الجمعيه الوطنية، يتقدمهم شيخ الأزهر وقاضي قضاة مصر ومفتيها ونقيب الأشراف وبطريرك الأقباط وفي الإجتماع يفتي ثلاثة من كبار شيوخ الأزهر، وهم "محمد عليش" و"حسن العدوي"، و"الخلفاوي" بمروق الخديوي توفيق عن الدين؛ نعم قد كفر الخديوي كفر حين طلب من الإنجليز المتربصين بسفنهم في البحر حماية عرشه وطلب من جيشه بقيادة أحمد عرابي الإستسلام وحين رفض عرابي أصدر قرارا بعزله هكذا واضحة مجلجلة لا جدال فيها.. قد كفر الخديوي، كفر من والي العدو وخان وطنه وجيشه وشعبه.. نعم قد كفر.
وبعد مداولة الرأي تصدر الجمعية قرارها التاريخي "بعدم عزل عرابي عن منصبه، ووقف أوامر الخديوي ونظّاره وعدم تنفيذها؛ لخروجه عن الشرع الحنيف والقانون المنيف" ولم تكتفِ الجمعية بذلك يا سيدي بل تبدأ بملحمة أسطورية شعبيه في جمع الرجال والسلاح والخيول من قرى وعزب وكفور ونجوع مصر كلها لمقاومة المحتل الإنجليزي الغاصب.
أرى الشمس في جمعية وطنية كتلك يا سيدي..
أراها مع الشيخ المراغي شيخ الأزهر يوم أن خاطبه رئيس الوزراء وقتها حسين سري باشا بلهجة حاده فيرد المراغي قائلا: "أمثلك يهدد شيخ الأزهر؟ وشيخ الأزهر أقوى بمركزه ونفوذه بين المسلمين من رئيس الحكومة".
ومع سيد قطب عندما يُطلب منه أن يكتب كلمات ليسترحم بها عبد الناصر فيرد قائلا: "إن أصبع السّبّابة الذي يشهد لله بالوحدانية في الصلاة، ليرفض أن يكتب حرفا يُقرّ فيه حكم طاغية"..
أرى الشمس يا سيدي..
أراها مع الرقيب أول مجند محمد عبد العاطي والذي يُطلق عليه صائد الدبابات لأنه دمر خلال أيام حرب أكتوبر 23 دبابة بمفرده ويُسجل إسمه في الموسوعات الحربيه كأشهر صائد دبابات في العالم.
ومع سعد إدريس حلاوه ذلك الفلاح المصري من قرية أجهور حين لم يصدق في ذاك اليوم البعيد من صباح 26 شباط/ فبراير عام 1980 أن السادات سيعتمد أول سفير لإسرائيل في مصر وهو "إلياهو بن اليعازر" فيعتصم بالوحدة المحلية بقريته أجهور ومعه بعض الرهائن ويطلب من السادات عبر مكبرات الصوت طرد السفير الإسرائيلي من مصر حتي يقتحم الأمن مكانه ليقتلوه فيجدونه قد كتب بدمه قبل موته " لا إله إلا الله.. تعيش مصر حره".
ومع الجندي سليمان خاطر يوم قتل المتسللين الإسرائليين علي الحدود يوم 5 أكتوبر 1985 إذ أنه صدق فعلا أنه جندي وأن عليه أن يحمي الحدود وحين يُحاكم عسكريا ويقف حوله جنود الحراسه يقول لهم "روحوا وإحرسوا سينا.. سليمان مش عايز حراسه".
أراها مع كل المعتقليين في مختلف العصور..
أراها مع الساجدين فجرا أمام الحرس الجمهوري والرصاص ينهال عليهم من جيش كان من الممكن أن يكون لهم.. فكان عليهم.
ومع معتصمي رابعة.. أولئك الذين تركوا بيوتهم وحياتهم وأولادهم ليقيموا في خيام في الشوارع دفاعا عن فكره، أراها مع متظاهري رمسيس وهم يهتفون بعودة الشرعيه فتنهال عليهم القذائف من طائرات جيشهم.. فلا يكون منهم إلا أن يُكملوا الهتاف وبأعلى صوت
لست متشائمة إطلاقا يا سيدي كما تظن..
أرى الضوء طوال النفق وليس في نهايته كما تتصور..
أرى الشمس في طفل مثل "صهيب عماد" صهيب المعتقل منذ أكثر من عام ونصف وإذا به يرسل لأمه ورقة صغيره رسم عليها قلب وكتب لها.. "سوف أعود يا أمي"..
وفي تلك الأم التي قُتل إبنها الأكبر في مذبحة رابعه فيسألونها ماذا لو عادت الأيام هل كنتِ تمنعينه من الذهاب هناك؟ فترد الأم "لو عادت الأيام هابعته ألف مره وهابعت كمان إخواته معاه"..
وفي شاب بنقاء "حسام أبو البخاري" يتعرض لعملية تعذيب نفسي وبدني بشكلٍ همجي و ممنهج وراء الأسوار و رغم كل ذلك مازال صامدا ومازال نقيا..
أراها في طره والعقرب وأبي زعبل..
أرى الشمس في مظاهرة تخرج الآن في قرية نائيه في مصر حتي لو كان عددها عشرات..
أراها في سناء عبد الجواد زوجة البطل البلتاجي وأم الشهيده أسماء وبقية أبنائها ما بين معتقل ومطارد وتجدها تكتب:
"صبرا.. فإن الشهيد قد ارتقى للجنان، صبرا.. فإن المحبوس سوف يُفك أسره، صبرا.. فإن الغائب سوف يرد، صبرا.. فإن السحاب الأسود سوف ينقشع، صبرا.. فإن الليل بعد ظلمته سوف يأتي الفجر، صبرا.. فإن القاتل سوف يلقى جزاءه، صبرا.. فإن قدرة الله حتما نافذة ..".
أراها في خمسين ألف معتقل لو قال أحدهم أنه مع الحكم العسكري في مصر لخرج إلي بيته محمولاً على أكتافهم لكنه لا يقولها يا سيديا يقولها.
أراها تبزغ من زنزانة إنفرادية مظلمه يعيش فيها رجل كحازم صلاح أبو إسماعيل ولو أراد أن يعيش في قصر من القصور بتأييده للإنقلاب لعاش..
أراها مع الرئيس الشرعي المنتخب محمد مرسي الذي مهما كان إختلافك معه فلا تستطيع أبدا أن تنكر أنه كان من الممكن أن يحقق لهم ما أرادوا ويتنازل عن الشرعيه ولكان الآن يعيش
حياة الملوك في أي دولة من دول العالم لكنه كان رجلا وقالها.. "الشرعية دونها دمي".
أراها مع الأمهات الصغيرات وهن يعلمن أبناءهن أن يرفعوا أكفهم بالأصابع الأربع حتي لا ننسى ولن ننسى..
أراها مع أسير في قفص يدير ظهره لقاض جبان.
مع طفل ينام وديعا في حضن أبيه الشهيد..
مع فتاة تسير علي عكازٍ تكبل أيديها السلاسل.. لكنها أكثر عزة من دولة بأكملها..
أرى الشمس في عيون الصغار في إبتسامة الشهداء في هتاف المتظاهرين في شموخ المعتقلين في عزة المجروحين وفي الوجع المكابر في نظرات المطاردين.
أراها وأشعر بدفئها ويغمر روحي نورها ويسطع في قلبي ضوؤها..
ماذا قلت يا سيدي ؟
قلت ألا ترين شيئا حقيقيا قد حدث أبدا؟
بل أرى الشمس يا سيدي.. أراها.
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي" عربي21"