كتاب عربي 21

انحيازات جيل يناير وانحرافاته

شريف أيمن
1300x600
1300x600
ارتبطت ثورة يناير بمشهد اجتماع الفئات المصرية بكل تنوعاتها السياسية والاجتماعية، ثم ما لبث ذلك الاجتماع في التحلل، وكان البدء باستفتاء مارس، ولم يتوقف تفسخ لحمة المجتمع منذ ذلك الحين، وهو دور قامت به فئات معادية للثورة، وأخرى أصحاب مصالح لا تعنيهم الثورة أو غيرها، لكن المِعْوَل الفعّال كان بيد من قام بالثورة وآمن بها، وساهم بهدم رُكْنها الرَّكِين، وهو اصطفاف الفرقاء ضد اجتثاث الديمقراطية.

مراقبة الحراك قبل ثورة يناير أظْهر أن الشباب في الجامعات وخارجها كانوا على قدر كبير من التوافق حول القضايا الوطنية، وكانوا أكثر قدرة على تجاوز الثنائيات المتخاصمة كإسلامي وعلماني، أو إسلامي وقومي، أو ليبرالي ويساري، وغير ذلك من التقسيمات التي تعد طبيعية في المجتمع، وعلامة الصحة في وجود الخلاف دون العداوة.

قيادات التيارات السياسية قبل الثورة، استجابت "مرغمة" لسلوكيات الشباب في الشكل العام، فحدثت عمليات تقارب واسعة كما بجبهة الراحل عزيز صدقي، والجمعية الوطنية للتغيير، والمشاكسات التي دارت تجاوزها شباب التيارات بشكل عام، وربما مثلت -حينها- اللجنة التنسيقية لطلاب مصر، حالة التوافق حول هدف رئيسي دون إلغاء لأي فصيل تحت مظلتها، أو سيطرة أحدهم على الباقين، واستمرت الحالة حتى اشتعال الثورة، ثم خفتت مع اشتداد عود الثورة، فكان ضعف الثورة متلازما مع تجافي المؤتلفين عن بعضهم.

ليس هناك سبب واحد لتفسير حالة الخصومة العنيفة التي جرت، لكن العامل المشترك الذي ظهر في لحظة ما، هو مدى القرب من السلطة أو البعد عنها؛ فالإخوان اختاروا مسارا مستقلا عن "بعض" حلفائهم في لحظة استحقاق انتخابي فأخطأوا وابتعدوا، في المقابل لم يترك الآخرون -الأقل تمثيلا في السلطة- مناسبة إلا ووقفوا بها أمام الإخوان، والتحفوا بالثورة في خطاباتهم ومواقفهم، وأسسوا دعوى خيانة الإخوان للثورة على التحالف مع العسكر، وهي دعوى غير كاذبة في حقيقتها وإن صدرت من كذابين؛ ففي اللحظة التي تهيأ العسكر فيها للانقضاض على مسار الثورة دعموهم بلا هوادة، والرافضون -فعليا- لحكم العسكر كانوا على استعداد لقبول إزاحة الرئيس بهم، على اعتبار أن الجيش سيعيد القرار للشارع بعد ذلك بانتخابات يقومون هم بتحديد ظروفها وكيفيتها بعد دعمهم للجيش، ولا تنس أن هؤلاء يتهمون الإخوان بالسذاجة لتحالفهم مع العسكر.

أخطأ هؤلاء حين أصرّوا على السير بمسار معلومة نهايته، وظهرت نية المؤسسة الأقوى مع بيان الـ 48 ساعة، ولو انسحبوا من المشهد حينها لكان من الممكن أن يتغير الوضع، لكن الخصومة بلغت حد استعجال خسارة خصمهم دون النظر لما بعد الخسارة.

الممارسة الديمقراطية تقتضي مشاركة أي فصيل بأي نسبة في الاستحقاقات الانتخابية، صحيح أن الإخوان حددوا نسبا للمشاركة وخالفوها، لكن التيارات المخاصمة لهم زعمت أن الديمقراطيات الناشئة لا تحتمل المشاركة المرتفعة من التيار الأقوى بالشارع، وهذا صواب، لكن التساؤل الذي لم يُطرح هو: هل تحتمل الديمقراطيات الناشئة انتخابات رئاسية مبكرة، خاصة في ظل انخراط رسمي ومباشر للمؤسسة العسكرية؟

بعد حصاد التجربة كان متوقعا أن يلتفت أهل يناير لأصل الخلل وجَبْره، لكن الحاصل أن الجيل الذي اعتاد تجاوز الإشكالات، أصبح وارثا لكراهية حملتها قياداتهم، وأصبحت أي محاولة للتقارب يرفضها الواقعون تحت بطش السلطة، ولم تعد السلطة بحاجة لبذل أي جهد في تفريقهم كما فعلت من قبل، وأصبحت ذكرى حدث كمحمد محمود فرصة لتجديد الخلافات والشقاق، لنصل إلى رفض أي اصطفاف من قِبل المشاركين في تلك الأحداث مع الإخوان، وبالمقابل رفض الإخوان للاصطفاف مع من شارك في 30 يونيو ضدهم، ويبقى المستفيد الوحيد الحاكم الدموي المستبد، والواقع أن حالة الرفض هذه ليست مبنية على ممارسات أي من الطرفين فحسب، بل هي عند "بعض" الواقفين على ضفتَيْ الخلاف نابعة من الرفض الأيديولوجي للآخر، وحدوث مثل تلك السلوكيات المرفوضة لأحدهما يتم التغاضي عنه، إذا كان من نفس تياره أو قريبا منه، وفي أفضل الأحوال قد يظهر نقد للسلوك، لكنه لا يبلغ التخوين والتشهير كما لو صدر عن المخالف الأيديولوجي.

لم يكن الذوبان مطلوبا من أحد، بل المطلوب مجرد التوافق ضد الاستبداد، ولم يكن مطلوبا من الدولة أن ترعى الانقسام، بل المطلوب أن تقف أمامه وترعى الوئام، ورعايتها للانقسام لن يعود على النظم المستبدة سوى بهامش يسير من البقاء؛ فخطره عليها أشد من وقوعه على القوى السياسية، ويبقى الضرر الأكبر على الوطن الباقي بعد زوال الجميع.

نقد الذات مطلوب، وتصويب المسارات خير من الكِبْر، ونوازع الثورة والانحياز إليها لا يزال متقدا في قلوب جيلها ومعاصريها، وما حدث من انحراف عنها أمر وارد، لكن الإشكال في عدم إدراك الانحراف والإشكال الأكبر في قصده.
التعليقات (0)