احتفى
علمانيون عرب كثيرا بحديث "تأبير النخل"، لما ورد فيه من إرشاد الرسول عليه الصلاة والسلام أصحابه إلى ضرورة التمييز بين ما صدر منه على سبيل التشريع وما صدر عنه بمقتضى بشريته المحضة.
ورأى منظرو تلك الاتجاهات العلمانية أن ما جاء في الحديث يعزز رؤيتهم الفاصلة بين الدين والسياسة، فما دام أن التدابير السياسية، وإدارة الحكم والسلطة شأن دنيوي، فما علاقة الدين بها حتى يقحم في شؤونها؟
وجاءت رؤية الأزهري علي عبد الرزاق في كتابه "الإسلام وأصول الحكم" لتصب في الاتجاه ذاته، فهو يرى أن إدارة شؤون الحكم "كلها خطط سياسية صرفة، لا شأن للدين بها، فهو لم يعرفها ولم ينكرها، ولا أمر بها ولا نهى عنها، وإنما تركها لنا، لنرجع فيها إلى أحكام العقل، وتجارب الأمم، وقواعد السياسة".
وبحسب روايات الحديث، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام حينما قال للقوم الذين مر بهم وهم يلقحون النخل، "ما أظن ذلك يغني شيئا"، لم يكن ما قاله لهم تشريعا دينيا، لأنهم حينما تركوا التأبير، وخرج شيصا (رديئا)، قال لهم: " أنتم أعلم بأمر دنياكم". وفي رواية أخرى: "إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأي فإنما أنا بشر".
لكن كيف خفي على الصحابة أن ما ذكره من ترك تأبير النخل لم يكن أمرا دينيا؟ فهل كان الأصل عندهم "أنهم يتعاملون مع أقواله عليه الصلاة والسلام – ولو كانت في أمور المعايش – على أنها على سبيل التشريع حتى يأتي من الدليل الشرعي ما يبين أنها على غير سبيل التشريع؟"، على حد قول أحد الباحثين.
وإذا كان الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام قد أرشد أصحابه إلى التمييز بين ما صدر عنه بصفته تشريعا دينيا، وبين ما كان من شأنه في أحواله البشرية المختلفة، فكيف يمكن التمييز بين
الديني والدنيوي في الإرث الضخم المنقول عنه؟ وما مدى وجاهة احتجاج العلمانيين والليبراليين بذلك الحديث لشرعنة فكرتهم المركزية في الفصل بين الدين والدولة؟
أقوال الرسول وتصرفاته واختلاف دلالتها
أوضح الأكاديمي التونسي المتخصص في أصول الفقه ومقاصد الشريعة، برهان بن حبيب النفاتي أن أقوال الرسول عليه الصلاة والسلام وأفعاله ليست على درجة واحدة، مشيرا إلى أن علماء الأصول بحثوا ذلك وبينوه في كتبهم.
ووفقا للنفاتي، فإن علماء الأصول قسموا أقوال النبي وأفعاله باعتبار التشريع والجبلة البشرية إلى عدة أقسام منها ما هو تشريعي محض، ومنها ما هو جبلي بشري محض، ومنها المتردد بين التشريعي والجبلي وهو ما يجري فيه الاختلاف.
وردا على سؤال
"عربي 21" بشأن تفصيل الكلام حول أقواله وتصرفاته عليه السلام، قال أستاذ مقاصد الشريعة: "قد يتصرف عليه السلام بصفته مبلغا عن ربه، ومبينا لما يتلقاه عنه سبحانه، فما يصدر عنه من هذا الجنس فهو تشريع ديني".
وأضاف: "وقد يتصرف بصفته قاضيا، وهنا يتصرف بصفته البشرية ويجتهد في حسم مادة النزاع بين المتخاصمين، فحكمه هنا يكون حكما جزئيا خاصا بالمتداعيين، ولا يكون تشريعا عاما لكل العصور، ما لم يحتف بوصف يرتقي ليكون قاعدة عامة كقوله "لا ضرر ولا ضرار"، فهذه تصدق على جزئيات كثيرة في كل زمان".
أما عن تصرفاته عليه الصلاة والسلام كإمام للمسلمين، فبين النفاتي أن تصرفاته تلك منوطة بالمصلحة الراجحة، ويفعلها بوصفه بشرا ما لم تحتف بها قرائن تجعلها تشريعا دينيا.
حديث تأبير النخل خارج دائرة التشريع
وفي السياق ذاته، أكد أستاذ الفقه الإسلامي وأصوله في الجامعة العالمية الإسلامية في الأردن، وليد شاويش، أن ما صدر عنه عليه السلام بحكم جبلته البشرية ليس تشريعا دينيا.
وبين شاويش أن حديث تأبير النخل خارج عن دائرة التشريع بالكلية، فهو يتعلق بقضية فنية خاضعة للتجريب، والتي تعرف نتائجها بالحس، فمن الخطأ البين قياس الأحكام الواقعة في دائرة التشريع على ما جاء في الحديث، لأنها ثبتت بأدلة شرعية صحيحة لا خلاف عليها.
وفي رده على سؤال
"عربي 21" حول إمكانية إخضاع بعض ما جاء في الأحاديث النبوية كالطب مثلا للتجربة كما في واقعة تأبير النخل، قال شاويش: "لو أنهم أخضعوا كل ما ورد عنه عليه السلام في التوجيهات الطبية فلن يجدوا ما يبين فسادها، بل إن كل الدراسات تثبت صحتها ومصداقيتها".
ولفت شاويش إلى أن كثيرا من الاتجاهات اللادينية تسعى لخلخة المنظومة الدينية الثابتة باستخدام حديث "تأبير النخل"، لتحقيق ما تصبو إليه من إقصاء الدين عن واقع الحياة بمختلف شؤونها، خاصة السياسي منها. منوها إلى أن الحديث يؤسس لعلم كبير يكون خادما للشريعة وليس هادما لها.
التمييز بين الدنيوي والأخروي
من جهته، تحفظ الأكاديمي السعودي، المتخصص في فلسفة التشريع الإسلامي، منصور بن تركي الهجلة، على إطلاق التمييز بين الديني والدنيوي، مؤكدا أن التمييز يكون بين الديني والأخروي كما بينه القرآن الكريم.
وتابع الهجلة حديثه لـ
"عربي 21": "الديني في الإسلام لا ينتسب إلى المؤسسة ولا إلى "رجال دين" لعدم خصوصيتهم بشيء على رقاب الناس، فالمسلم لا يحتاج إلى العلماء والفقهاء إلا في حال جهله بمسألة معينة، فيجب عليه حينئذ سؤالهم، والأخذ بما تطمئن إليه نفسه من كلامهم".
وبين الهجلة أن
الدنيوي قد يتحول بالنية إلى ديني يؤجر عليه صاحبه، وكذلك فإن المصالح المشروعة تعتبر من الدين ولو كانت دنيوية محضة، لافتا إلى أن تمييز الديني عن الدنيوي صعب جدا في الفقه الإسلامي.
وكان الكاتب والباحث المصري، محمد شاكر الشريف، قد ناقش في كتابه "تحطيم الصنم العلماني" ما أسماه "الاستدلال الخاطئ بقول الرسول: "أنتم أعلم بأمور دنياكم" من قبل العلمانيين الذين اعتبروا
النظام السياسي وتدبير شؤونه أمرا دنيويا لا علاقة للدين به.
وذهب الشريف إلى القول: "إن "أمر الدنيا" الذي عناه الرسول عليه الصلاة والسلام في حديثه، هو تأبير النخل، فلا يقاس عليه إلا ما جرى مجراه وكان على شاكلته، وهو الخبرة العملية المتعلقة بشأن من الشؤون المباحة التي لم يتعلق بها الخطاب الشرعي لا أمرا ولا نهيا، وليس المراد بذلك كل أمر متعلق بالدنيا".
وتابع: "لأنه قد جاءت نصوص شرعية كثيرة في أمور الدنيا، وقد تعلق بها الخطاب الشرعي أمرا ونهيا، فكانت بذلك موكولة إلى الشرع يبين حلالها وحرامها، وما يصح منها وما لا يصح، إلى غير ذلك من تفاصيله المطلوبة، ولم تكن موكولة إلى المسلمين - أو إلى غيرهم – يجتهدون فيها بمقتضى عقولهم أو مصالحهم أو أهوائهم".
ووفقا للشريف، فإن "النظام السياسي وتفاصيله قد تعلق به الخطاب الشرعي أمرا ونهيا وتخييرا، فكان بذلك من النوع الموكول إلى الشرع يبين أحكامه وتفاصيله، ولم يكن من النوع الأول الذي وُكل إلى الخبرة البشرية حيث لم يتعلق به الخطاب الشرعي".