كتاب عربي 21

الشهادات لا تصنع الإنسان بل هو من يصنعها

جعفر عباس
1300x600
1300x600
نردد كثيرا في العالم العربي أن عباس العقاد كان أديبا وناقدا وشاعرا، وزاده من التعليم الشهادة الابتدائية، ولكنه يكاد أن يكون "نكرة" عند الناطقين بغير العربية أو دارسيها، وسأحدثكم اليوم عن كثيرين أنجزوا ما هو أكبر بكثير مما أنجزه العقاد بدون شهادات أنيقة موشاة بماء الذهب.

ما من شخص يستخدم الكمبيوتر، إلا واستفاد من برمجيات شركة مايكروسوفت، التي أسسها بيل غيتس، بعد أن ترك الدراسة في جامعة هارفارد العريقة، ثم جاء ستيف جوبس مسلحا بالشهادة الثانوية وقاد شركة أبل إلى نجاحات مذهلة بمخترعات أشهرها الآيبود وكمبيوترات ماك والآيباد والآيفون، وأبل apple تعني التفاحة وكما يلاحظ كل من رأى شعار الشركة فإن تفاحتها "مقرومة"، وربما اختار العبقري جوبس أن يكون شعار الشركة تفاحة جزء منها مأكول أو "منهوش"، ليوحي بأنه مهما بلغت الشركة من نجاح فسيبقى هناك شيء ما "مفقود وناقص".

والشاهد هو أن الشهادة الجامعية ليست بالضرورة جواز المرور الناجح في الحياة العملية، بدليل أن هناك كثيرين من ذوي السجلات التي ستبقى في ذاكرة البشرية على مر القرون، لم يدخلوا الجامعات، ومن منا لا يذكر ونستون تشيرتشل أشهر رؤساء الحكومات في بريطانيا، والذي قاد بلاده باقتدار خلال الحرب العالمية الثانية، وكان العقل المفكر لتشكيل التحالف الذي هزم هتلر وأنقذ البشرية من رجس النازية

تشيرتشل تنقَّل بين أربع مدارس ثانوية، ثم هجرها والتحق بالمدرسة العسكرية، وشارك في حروب كثيرة كمقاتل وكمراسل حربي، وسيبقى تشيرتشل في ذاكرة التاريخ ليس فقط بوصفه قائدا سياسيا وعسكريا فذا، بل لأنه كان أيضا كاتبا وخطيبا مفوها، يرتجل الكلام فيهز أوتار القلوب، بل كان خصومه في البرلمان البريطاني يتعمدون التحرش به، للاستمتاع بردوده اللاذعة البليغة، وبالتالي ليس مستغربا أن يكون تشيرتشل رئيس الوزراء الوحيد في تاريخ العالم الذي يفوز بجائزة نوبل في الأدب، وتشيرتشل كان يتأتئ (تمتام) يجد صعوبة في نطق الكلمات لسنوات طويلة وتغلب على تلك الإعاقة بالمران وقوة الإرادة وهو فوق الثلاثين.

وليس معنى كلامي هذا أن كل من يرفض الدراسة، سينجح بالضرورة في مجال من مجالات الحياة، بل معناه أن عدم حيازة الشهادات المدرسية أو الجامعية، لا يقف عائقا أمام نجاح ذوي العزم والعزيمة، في اكتساب مهارات بالممارسة، أو لكونهم ذوي استعداد فطري للتفوق في ميادين معينة.

خذ مثلا إيرنست هيمنغواي أشهر روائيي القرن العشرين، والحائز على جائزة نوبل للأدب، فقد درس المراحل حتى الثانوية في مسقط رأسه بولاية إلينوي الأمريكية، ولكنه كان يفضل الموسيقى على الدارسة الأكاديمية، وسرعان ما هجر المدرسة الثانوية ليصبح مراسلا لجريدة كنساس ستار المحلية، وما إن اشتعلت الحرب العالمية الأولى حتى عمل فيها سائق سيارة إسعاف، متنقلا عبر الجبهات الأوربية، ثم غطى الحرب الأهلية في إسبانيا كصحفي، وكتب رائعته "وداعا للسلاح"، وبدون "حتى شهادة إكمال الثانوية" كتب ست روايات تعتبر من كلاسيكيات الأدب الأمريكي، وهذا الرجل الـ"بدون شهادات" تزوج على مدى 40 سنة بأربع حسناوات طلقهن على فترات متباعدة، ثم طلق الحياة بأن أطلق النار على نفسه في عام 1961.

والشاهد هو أن الشهادات لا تصنع الإنسان، وأن العصامية والاجتهاد والمثابرة و"التلطش" في مدرسة الحياة تجعل الكثيرين يتفوقون على حاملي الألقاب العلمية الكبيرة، فأشهر رئيسين في الولايات المتحدة وهما جورج واشنطن وأبراهام لنكن (لا يُنطق اسمه "لنكولن" فاللام التي قبل النون الأخيرة لا تُنطق وإن كانت تُكتب)، لم يكونا حاصلين حتى على "دبلوم"، وبالمقابل كان جورج دبليو بوش يحمل شهادة من أشهر جامعتين في العالم (هارفارد وييل)، وفاز بولايتين رئاسيتين، أثبت خلالهما أن الإنسان المتعلم قد يرتد الى الأمية، فقد كانت قراراته خرقاء، وأهدر تريليونات الدولارات في حروب خاسرة، لأنه كان قاصر الفكر وقصير النظر، وعن أمثاله نقول في السودان إن "القلم لا يزيل البلم"، والبلم هو البلاهة والخبل، وفي 8 سنوات نسف بوش كل ما أنجزه أسلافه، وجعل أمريكا أكثر دولة منبوذة في العالم، ويدفع الأمريكان اليوم فاتورة الخسائر التي كبدها بوش أبو شهادات، لخزينة بلادهم ركودا اقتصاديا وبطالة. 

الكاتب الأمريكي الأشهر مارك توين، دخل الحياة العملية وعمره 12 سنة متدربا في مطبعة، واستغل وجوده في المطبعة، وصار يقرأ كل ما يصدر منها من كتب، ثم صار شيخ الأدباء الساخرين في العالم، واستثمر شهرته لرفض الاستعمار القديم، ومحاولات أمريكا الهيمنة على الدول الأخرى، وكان من أقوى مؤيدي قرارات الرئيس أبراهام لنكن لإلغاء الرق والعبودية، وقال مقولته الشهيرة "إن تلك القرارات تحرر الإنسان الأبيض أيضا". وتوماس ألفا أديسون مخترع المصباح الكهربائي لم يكن يحمل حتى شهادة ابتدائية في الكهرباء أو الفيزياء.

ثم لماذا نذهب بعيدا؟ هل كان الطبري والفارابي والخوارزمي وابن سينا واليعقوبي يحملون الشهادة الإعدادية؟ هل كان فارس معركة القادسية سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، خريج كلية القادة والأركان في يثرب؟ هل كان ابن الخطاب يحمل بكالوريوس العلوم الإدارية من جامعة قريش؟

والشاهد مجددا، هو أن هناك شيئا اسمه الموهبة، ولو تم تعزيزها بالاطلاع والطموح والتثقيف الذاتي، لأصبحت الشهادات بلا قيمة، أو "زيادة خير"، حتى في عالمنا المعاصر، إلا لدى جهات العمل التي تشترط لكل وظيفة مؤهلا ما، وكثيرون منا التقوا بأشخاص يحملون مؤهلات عالية بينما قدراتهم المهنية أكثر من متواضعة.

التعويل و"الرك" ليس على الشهادات، بل في التعلم المستمر، وإلا فلماذا يقول الناس – مثلا – عن طبيب متخصص في مجال ما إنه "غبي"؟ نحن نعرف أن كليات الطب لا تقبل إلا أفضل الطلاب أداء في الامتحانات، ودراسة الطب والنجاح فيه شاقة، ولكن ذلك "الأخصائي" استحق لقب غبي لأنه اعتقد أنه أوتي من العلم ما يكفي، وتوقف عن متابعة المستجدات في عالم الطب والأدوية فلا يقرأ "دوريات" ولا يشترك في مؤتمرات، فـ"فاته القطار" كما قال شاويش اليمن علي عبد الله صالح الذي فاته القطار فركب مجنزرات الحوثيين.
1
التعليقات (1)
ياسو
الإثنين، 25-02-2019 05:17 ص
مقال قمة في الروعة

خبر عاجل