لم تكن خطيئة رئيس تحرير جريدة الأخبار وفتى العسكر المدلل ياسر رزق وسخريته من إصابة المرشد العام للإخوان المسلمين الدكتور محمد بديع بمرض الفتاق سوى واحدة من سلسلة من الخطايا والتجاوزات والجرائم التي ترتكبها الأذرع الإعلامية لسلطة الانقلاب في مصر بحق الشعب المصري ورموزه الوطنية والثورية، في ظل حماية وتشجيع كاملين من تلك السلطة لهذه
الجرائم التي هوت بسمعة الإعلام المصري إلى أسفل سافلين.
تتعامل هذه الأذرع باعتبارها جزء لا ينفصل عن سلطة الانقلاب وجودا وعدما، ولذا فهي تستميت في الدفاع عن هذه السلطة لأن أي تغيير يطالها سينعكس حتما تغييرا بالقدر ذاته في هذه الأذرع ورموزها، وتزداد حماقة هه الأذرع بحيث لا تترك "للصلح باب" على العكس مما فعلت أذرع مبارك الإعلامية التي جعلت الباب "مواربا"، وحين قامت
ثورة 25 يناير استطاع الكثيرون من تلك الأذرع القفز من سفينة مبارك واللحاق ولو ظاهريا بسفينة الثورة.
كان تطهير الإعلام واحدا من المطالب الرئيسية لثورة يناير "الشعب يريد تطهير الإعلام" وكان بميدان التحرير لوحة كبيرة عليها صور وأسماء الصحفيين والإعلاميين المضللين والمحرضين الذين ينبغي تطهير الصحافة منهم ومن أمثالهم، لكن المجلس العسكري الذي خلف مبارك في السلطة ظل وفيا لتلك الأذرع الإعلامية فلم يقترب منها، وسمح لها بتغيير ثيابها ومظاهرها حتى تفلت من العقاب، وكان يدعو لحواراته تلك الرموز التي طالب الشعب بمحاكمتها في حين كان يتجاهل رموزا إعلامية أخرى ارتبطت فقط بمعارضة نظام مبارك والتمهيد لثورة يناير، ولم يحدث اقتراب حقيقي -وإن بهدوء- نحو تطهير الإعلام سوى في عهد الرئيس محمد مرسي حيث أصرت إدارة مرسي على تغيير كل رؤساء تحرير الصحف القومية(الحكومة)، وعددهم 48 رئيس تحرير فقط؛ لكونهم معينين من قبل المجلس العسكري في الفترة الانتقالية، ولأن الكثيرين منهم كانوا من الرموز الفاقعة لنظام مبارك، ورفضت إدارة الرئيس مرسي كل الوساطات التي أرادت الإبقاء على رئيسي تحرير فقط هما (ياسر رزق رئيس تحرير الأخبار صاحب الخطيئة الأخيرة، ومحمد عبد الهادي علام رئيس تحرير الأهرام صاحب الكثير من الخطايا أيضا)، كان وسطاء المجلس العسكري يطلبون الإبقاء فقط على هذين الشخصين في نهاية المطاف مقابل أن يقوم الإخوان بتغيير كوادرهم الصحفية كرؤساء لتحرير بقية الصحف والمجلات مع قبول كامل من المجلس العسكري بذلك لكن هذا العرض رفض تماما( أوردنا هنا فقط نموذج تغييرات الصحف القومية وقد تتاح الفرصة لاحقا للكتابة عن التغيير في القطاعات الإعلامية الأخرى)..
عاد رئيسا تحرير الأخبار والأهرام إلى مواقعهما حين عاد حكم العسكر الذي ينتميان إليه، وعادا محملين بجبال من الكراهية والغل تجاه من أبعدوهما عن موقعيهما من قبل، وقد أعماهما الغل عن الالتزام بالمعايير المهنية والقواعد القانونية التي يظنان كل الظن أنها لن تطالهما بحكم علاقتهما بالمؤسسة العسكرية الحاكمة.
حين حاصرت الضغوط المهنية والأخلاقية ياسر رزق بعد نشر العنوان الفضيحة نشر ما وصفه بـ "توضيح لابد منه واعتذار إن لزم الأمر" وفي هذا التوضيح ظهر أن رزق يحني رأسه فقط لعاصفة الغضب، لكنه لم يمتلك الشجاعة الكافية ليقدم اعتذار واضحا عن جريمته، بل إنه راح يطلب في المقابل من المرشد العام اعتذارا، ولا ندري عن أي شيء يعتذر المرشد العام، هل يعتذر عن حكمته البليغة التي صارت دستورا لحركة الثورة " ثورتنا سلمية وستظل سلمية، سلميتنا أقوى من الرصاص" أم يعتذر عن استشهاد نجله أم عن حرق بيته ومكتبه؟
جريمة
التحريض على العنف والقتل والكراهية والتي يجرمها الدستور المصري والقوانين ومواثيق الشرف المحلية والعالمية، تشغل حيزا كبيرا من النشاط الإعلامي لأذرع السيسي وما فعله ياسر رزق هو جزء منها، وهي لا تسقط بالتقادم فحتى لو عجز المتضررون عن الحصول على حقوقهم في ظل سلطة الانقلاب الحالية فإنهم لن ينسوا حقوقهم وسيطالبون بها يوما، وسينتصر العدل لهم.
لطالما تصاعدت الدعوات بوقف جريمة التحريض بحق الشعب وبحق المهنة ولكن لا حياة لمن تنادي، فالنقابة التي أوكل لها القانون مسئولية حماية المهنة وآدابها وأخلاقياتها، رضيت بأن تكون جزءا من منظومة الانقلاب، ولم تحافظ على استقلالها ولو شكلا كما كانت تفعل دوما في العهود السابقة، رضيت بأن تكون في وضع "المستضعف المسكين" الذي يرضى " بقليله، فتركت المحرضين ينفثون سمومهم في كل اتجاه، لم تحاسب أحدا منهم، فتكاثروا وتوالدوا، ودفع الشعب ثمنا باهظا لتحريضهم، النقابة التي لم تكن تفرق يوما بين أعضائها حسب انتماءاتهم السياسية أصبحت تتعامل مع الصحفيين وفقا لهذه الانتماءات فتدافع عن البعض وتترك الغالبية ممن طالتهم خناجر السلطة ورصاصاتها قتلا في الشوارع وحتى البيوت، وسجنا في أسوأ أماكن الاحتجاز، حيث لا يتم معاملة هؤلاء الصحفيين السجناء وبينهم عدد كبير من أعضاء النقابة ومعهم آلاف السجناء الآخرين معاملة إنسانية، ويتم حرمانهم من الأغطية والأدوية والزيارات القانونية، والعلاج ولو على نفقتهم الشخصية من أمراض خطيرة ألمت بهم في محابسهم، وإذا كانت النقابة قد أرسلت طلبا للسيسي للعفو الرئاسي عن عدد من الصحفيين السجناء وهي خطوة تحمد لها، إلا أن المطلب يظل ناقصا لأنه حوى 28 اسما فقط من بين مائة صحفي سجين، ولم يتضمن الكثير من الأسماء التي تستحق الخروج العاجل من الحبس، كما أن صمت النقابة عن مواجهة عمليات القمع والملاحقة التي تمت للصحفيين والصحف خلال الفترة الماضية أغرى السلطة بالمزيد منها، فوجدنا مداهمة جديدة لموقع مصر العربية واحتجاز مديره العام لبعض الوقت، وقبله منع طباعة بعض الصحف لاحتوائها على مواد صحفية غير مرغوب فيها، وأحكاما جديدة بالحبس على بعض الصحفيين، ومحاولة قتل أحد المصورين بالطريق العام.
ليتذكر الصحفيون تلك الأيام الخوالي عقب ثورة 25 وخلال حكم الرئيس المدني المنتخب محمد مرسي، وكيف وصلت حرية الصحافة إلى سقف لم تبلغه عبر تاريخها كله، وهي محرومة منه الآن تحت حكم العسكر، وإذا كان البعض لا يشعر الآن بالخوف من المساءلة عن جرائم التحريض التي يرتكبها فليعلم أن يوم الحساب آت لاريب فيه في الدنيا أو الآخرة، وإذا كان البعض لا يهتم كثيرا بفكرة الحرية فعليه أن يتأكد أنه مهدد في لقمة عيشه مع توالي إغلاق الصحف والقنوات، وخفض وتصفية العمالة بها نتيجة عدم قدرتها على دفع الرواتب وتكاليف التشغيل، والسبب في ذلك هو غياب مناخ الحرية الذي كان يسمح لها بالمنافسة وتقديم ما يغري القارئ والمشاهد بمتابعتها، والصرف عليها ونشر الإعلانات بها.