بعد وفاة الفقيه والأصولي العراقي، الدكتور
طه جابر العلواني، يوم الجمعة، الرابع من الشهر الجاري، تداول نشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي وصفه بأنه كان يرد الأحاديث النبوية برأيه، وبلا دليل شرعي معتبر، وأنه صاحب نظرة مضطربة في التعامل مع السنة النبوية.
كتب الدكتور عبد السلام أبو سمحة، أستاذ الحديث المشارك في كلية الدراسات الإسلامية والعربية بدبي، على صفحته في "الفيسبوك" بعد وفاة الدكتورين العلواني والترابي قائلا: "ماتوا جميعا... وبقيت السنة وصحاحها لا يُعكر صفوها من مرَّ.. مروا وماذا كان.. مضوا إلى حيث أنكر بعضهم! مضوا إلى القبر.. حيث تتجلى حقائق ما أنكروا..! العلواني والترابي أنموذجا..".
وردا على سؤال "
عربي 21" حول انتقاده الشديد لهما، خاصة العلواني قال أبو سمحة: "لم أنتقد العلواني بسبب رده أحاديث بعينها، بل انتقدت أصول تعامله مع السنة النبوية جملة واحدة.. فرد حديث هنا أو هناك أمره أهون من النظرة المضطربة التي قدمها العلواني لا أقول في كل كتبه، بل أخصص كتابا واحدا فقط، وهو كتاب (إشكالية التعامل مع السنة)".
وأضاف أبو سمحة: "يمكننا الوقوف تفصيلا عند أبرز معالم ذلك لكن ذلك يطول.. فمنها: دعوى عدم إرادة الله حفظ السنة النبوية، ودعوى التفريق بين محمد النبي الذي انتهى مقام نبوته بموته.. وارتباط أقواله بمقام النبوة وبين مقام الرسولية الباقية بعد موته.. والمرتبطة بالقرآن الكريم، وهذا يقود إلى تشويش النظرة إلى حجية السنة النبوية".
وتابع قائلا: "ومنها حديثه عن التحريف التوراتي وأثره في تحريف الروايات.. وغيرها من المسائل التي تعد أخطر من رد حديث هنا أو حديث هناك إلى نسج سلسلة من الأباطيل حول علوم السنة على حد قول أبو سمحة".
انتقاد أبي سمحة وغيره من المتخصصين في العلوم الشرعية، خاصة
الحديث النبوي وعلومه لمسلك الدكتور طه العلواني في التعامل مع السنة النبوية، يفتح المجال للبحث في حيثيات هذا الانتقاد وخلفياته، لمعرفة متى يصح ويستقيم وصف العالم الشرعي بأنه راد للحديث النبوي، وأنه صاحب أباطيل حول السنة النبوية وعلومها؟ وهل كل عالم أعمل عقله في مناقشة الأحاديث سندا ومتنا، وفق منهجية علمية ارتضاها يكون معاديا للسنة النبوية، ويخشى عليه من سوء العاقبة؟
قصر النقد الحديثي على المتخصصين
من جانبه، أوضح أستاذ الحديث النبوي والسيرة النبوية في جامعة الكويت، الدكتور سلطان العكايلة أن النقد الحديثي (سندا ومتنا) له رجاله وأهله، وكل من أراد ممارسة ذلك النقد عليه أن يكون ممتلكا لأدواته الكاملة، وفق منهجية المحدثين.
وتساءل العكايلة في معرض انتقاده لتساهل الكثيرين في مناقشة الأحاديث وردها: لماذا يهجم على نقد الأحاديث وردها من لم يستجمع ويستوفِ شروط النقد الحديثي سندا ومتنا؟ ولماذا تحترم التخصصات الأخرى ولا يحترم تخصص الحديث النبوي وعلومه؟
وقال العكايلة جوابا عن سؤال "
عربي 21" بشأن رد أحاديث الآحاد إذا ما تعارضت مع القرآن أو العقل: "ما هو العقل الذي يرد الحديث النبوي؟ وبأي فهم للقرآن يُرد الحديث؟"، مؤكدا أنه غالبا ما تكون العلة في فهم الأحاديث وتأويلها، والتي يمكن فهمها فهما صحيحا يرفع التعارض الموهوم مع القرآن أو العقل.
ونفى العكايلة وجود أحاديث نبوية صحيحة تصطدم مع القرآن، وحينما ينشأ التعارض في نظر العالم فعليه البحث عن كيفية إزالة هذا التعارض بالطرق المعروفة في علم أصول الفقه، لافتا إلى أن كثيرا من الأحاديث التي تجرأ بعضهم على ردها بحجة مخالفتها للقرآن أو العقل، يمكن فهمها فهما صحيحا يزيل تلك الأوهام ويفندها.
في السياق ذاته، أوضح أستاذ الشريعة الإسلامية في جامعة العلوم الإسلامية الأردنية، الدكتور وليد الشاويش أن بعض من يردون الحديث يردونه بسبب توهمهم معارضته للقرآن، أو معارضته لأحاديث أخرى، مع أنه ربما كان يكون مخصصا، والخاص لا يعارض العام كما هو مقرر عند الأصوليين، وهو ما يؤدي إلى طرح الأدلة وتساقطها عندهم.
وبين الشاويش أن تصور التعارض بين الأصول والفروع ليس موجودا على الحقيقة، فالتعارض بين الأدلة لا يكون في الأمر نفسه، وإنما قد ينشأ في نظر العالم والباحث، والقاعدة تقول إن عمل المجتهد هو جمع الأدلة وليس طرحها.
ولفت الشاويش في حديثه لـ"
عربي 21" إلى أن ما يظهر من تعارض بين الأدلة يمكن الجمع بينها، ولا يتعذر الجمع بينها إلا في حالة الناسخ والمنسوخ، فيبحث حينئذ عن المتقدم والمتأخر منها، وكل ما يقال عن معارضة أحاديث للقرآن أو أصول شرعية، قد بذل
العلماء جهودا كبيرة في الجمع بينها وفق القواعد المقررة في علم أصول الفقه.
لكن هل يمكن اعتبار عدم العمل بأحاديث نبوية صحيحة هو من قبيل مناهج الأئمة في التعامل مع الحديث، كما هو عند المالكية في تقديم عمل أهل المدينة بشروطه على خبر الآحاد، وكما هو مذهب الأحناف في رد خبر الآحاد إذا ما تعارض مع القرآن؟
أجاب الشاويش بأن مناهج الأئمة في الاستدلال والاستنباط معروفة عند العلماء، ولها شروطها وأصولها، مبديا تحفظه الشديد على طرائق كثير من المعاصرين في التعامل مع الأدلة الشرعية، والتي تفضي غالبا إلى تعطيل الأدلة وإسقاطها.
فقه الاختلاف وإعذار المخالف
بدوره اعترض الباحث الشرعي المتخصص في الحديث النبوي وعلومه، إبراهيم العسعس، على المصطلح نفسه (رد الحديث) حينما يستخدم في نقد عالم شرعي مرجعيته هي المرجعية ذاتها المقررة في قبول الأدلة وإعمالها، ويتحرك من داخل تلك المرجعية، فهو ليس ضد السنة النبوية، ولا خصما لها، ولا توجد لديه مشكلة في حجية السنة، واعتبارها مصدرا من مصادر التشريع والمعرفة.
وأوضح العسعس أن العالم الشرعي المعروف بعلمه وإخلاصه، كما يظهر لنا من ظاهر حاله، حينما ينتقد بعض الأحاديث، أو يخالف في تطبيقات بعض القواعد، لا يكون بذلك رادا للسنة النبوية، وإنما ينظر في صنيعه ذاك ويناقش فيه، لأنه من حيث الأصل لا توجد لديه مشكلة في منهجية النقل وآلياتها الضابطة لذلك، ومن حق العلماء الآخرين الاعتراض عليه ومناقشته في آرائه، والتي يكون فيها معذورا ومأجورا، لسلامة مقصده، وحسن نيته.
ومثَّل العسعس لذلك بقاعدة "قبول زيادة الثقة" وهو ما درج المتأخرون على العمل بها، لكننا إذا عدنا إلى تطبيقات المتقدمين لها وفي مقدمتهم الإمام البخاري، نجد الأخير مثلا مرة قبل بها ومرة أخرى رفضها، فليست المشكلة في القاعدة نفسها، وإنما في تطبيقاتها نظرا لتدقيقه في القرائن التي احتفت بكل حالة من حالاتها، قبولا وردا.
وأضاف العسعس لـ"
عربي 21" أن محاولة فهم مناهج العلماء في الاستدلال، وطرائقهم في الفهم والاستنباط لا يعني موافقتهم على كل أقوالهم، وإنما هي مطلوبة من باب إعذارهم في اجتهاداتهم، والتي يؤجرون عليها وإن أخطؤوا فيها، لأنها ليست مبنية على الهوى، والرأي المحض المذموم، لافتا إلى أن العالم كلما ازداد معرفة بالخلاف، توسع في التماس الأعذار لمخالفيه.
وفرق العسعس بين مسلكين، أحدهما يرفض أصحابه الاعتراف بحجية السنة النبوية كمصدر تشريعي ومعرفي، ومسلك آخر يُقر أصحابه بحجيتها ويعتبرونها مصدرا من مصادر التشريع والمعرفة، لكنهم يتوقفون في أحاديث معينة فيناقشونها مناقشة علمية، أو يبدون تحفظات على تطبيقات قواعد حديثية معينة، فهذا الصنف لا يقارن بالأول ولا يقال فيه إنه يرد السنة النبوية أو ينكرها، وإنما هو مجتهد معذور ومأجور في اجتهاده.
واستذكر العسعس أنه في إحدى مشاركاته في المعهد العالمي للفكر الإسلامي في عمان، عقب بورقة بحثية انتقد فيها منهجية العلواني، مقرا للعلواني بأنه يتحرك في كتاباته وبحوثه من داخل المرجعية الأصولية، التي يستحضر فيها الأصوليون فقه المقاصد وروح الشريعة ومقاصد النصوص وروحها، وإن كان يخالفه في نتائج بحوثه وآرائه.
في حوار صحفي سابق، سئل الدكتور العلواني السؤال التالي: "لكن البعض يعتقد أن البخاري ومسلم وعلماء الحديث على مر العصور قد كفوا الناس مؤنة هذا البحث، ووضعوا القواعد ما ضمن صحة ما رووه.. فما تعقيبكم؟".
أجاب العلواني: "يا سيدي أنا بوصفي طالب علم من حقي ألا أقبل أحاديث ما، قد يكون صح سندها عند غيري، لكني اكتشفت في السند عيبا، أو صح متنها عند آخرين ونقدت المتن واكتشفت به عيبا، وفقا للمنهج الأصولي، كما فعلت في حديث الردة حديث (من بدل دينه فاقتلوه) درست جميع طرقه، وكما درست طرق حديث (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث)".
وتابع قائلا: "هذه الأحاديث مشتهرة على الألسن وصححها كثيرون، لكن وجدنا فيها عيوبا وفقا لمناهج المحدثين، فما العيب أن يقوم طالب علم، أو شخص مختص بدراستها وفق المناهج التي وضعها المحدثون، ليثبت لنا أن هذا الحديث فيه عيب لم يُكتشف ويكتشفه؟ {كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك..} أنا لا أدّعي لنفسي أي شيء فيها، أنا مجرد طالب علم أخطئ وأصيب".