لم أكن أحتاج إلى اللجوء إلى "فتح المندل"، أو "قراءة الطالع"، أو إلى استخدام جهاز "فك الشفرة" الذي استخدمه دائما لفهم ما يقوله "عبد الفتاح السيسي"، لأقف على أن نصر الدين علام، وزير الري في عهد مبارك، هو المعني في خطابه "طويل التيلة"، عندما بدا السيسي يتحدث عن شخص غامض، يفتي بما لا يعلم في موضوع سد النهضة، وعليه فقد طلب منه أن يأتي إليه لينبئه بما لم يحط به علما!
وهكذا عندما يضطر السيسي للحديث عن هذا السد، فإنه يتحدث بالإشارة والرموز وبالإيحاءات، فهو يريد للرأي العام أن يطمئن، ولا يناقشه، أو يفتح الموضوع للنقاش، ومن قبل تساءل لينهي الجدل المطروح إعلاميا: "هل ضيعتكم قبل ذلك لكي أضيعكم هذه المرة"؟!..
وعندما يستبد القلق بالمصريين، فإن إعلامه يروج لخزان المياه الجوفية الذي يكفي
مصر لمئة عام قادمة، ثم ينسى هذا ويبدأ الحديث عن استخدام مياه المجاري بعد تحليتها، على أساس أن هذا مشروع قومي يستحق أن يلتف حوله المصريون، وذلك ليهون من شبح الخطر الذي جسم على القلوب، ويبدو له أن "وصلة التطمينات" التي يقوم بها لا تبدد الإحساس بالخطر!
فالسيسي يلف ويدور حول الموضوع، ولأن وزير الري السابق الدكتور نصر الدين علام، من أكثر الذين يحذرون من مخاطر السد على مستقبل مصر، وأولى هذا الموضوع اهتماما خاصا، فقد وجه له السيسي تحذيرا بألا يهرف بما لا يعرف، لأن هناك أسرارا ومعلومات لا يعرفها، فليأت له ليعرف قبل أن يتكلم، والمعنى أن يسكت، لأنه لو كان يريد أن يخبره بشيء لاتصلت به الرئاسة وضربت له موعدا لينهل من علم "طبيب الفلاسفة" و"فيلسوف الأطباء"!
لست مؤيدا لتجربة الوزير السابق للري عندما أثيرت أزمة سد النهضة في عهد مبارك، صحيح أن أثيوبيا لم تجرؤ على بنائه، ولكن اللافت أن الوزير نفسه تصرف على طريقة السيسي عندما قال إنه ما يطمئنه على أن الأمور على ما يرام، هو "أن الرئيس مبارك مهتم بالموضوع"، وطلب منا وقتها بهذا "التصريح الفهلوي" أن يضع كل منا في بطنه "بطيخة صيفي" ويطمئن!
بيد أن الوزير السابق، أثبت مؤخرا أنه ينتمي بالفكرة لجيل مصري انقرض كان يقبل التفريط في كثير من المبادئ، لكنْ لتنازله حدود، وكان من هذا الجيل الدكتور رفعت المحجوب رئيس البرلمان الأسبق، الذي كانت مهمته أن يزين لمبارك سوء عمله ليراه حسنا، لكنه تذكر اشتراكيته في مواجهة بيع القطاع العام، عندئذ قال: "على جثتي"!
"نصر الدين علام"، ليس رجل سياسة وفكر، لكنه رجل فني، يفهم في مجاله، وعندما تم اختياره وزيرا، شغله أن يكون عضوا بالبرلمان، ليجمع بين الحسنيين، وهو أمر يحرص عليه من عندهم "شبق للسلطة"، وقد خسر كل هذا بضربة واحدة، كانت هذه الضربة هي ثورة يناير، فقد حل البرلمان وخرج من الوزارة، لكنه كان نموذجا لوزراء، بل ورؤساء حكومات سابقين، من التكنوقراط، الذين لا يعنيهم حتى الانتماء للحزب الحاكم، بقدر ما يمكنهم من الاستمرار في السلطة، فلا نعرف له انتماء سابقا لهذا الحزب قبل اختياره وزيرا وقبل ترشحه على قوائمه!
لكن عند أزمة سد النهضة، فإن الرجل انبرى مقاتلا ومحذرا، ومعلنا أن "آثار سد النهضة كارثية على مصر، لا نستطيع استيعابها أو العيش معها، على رغم الكلام الساذج للبعض عن أن التحلية والترشيد هما الحل، من دون فهم تحليلي لواقع وتداعيات الأزمة".
ويقول: "لقد أنجزت أثيوبيا 60 في المئة من منشآته، وما زالت مصر تتفاوض للتعاقد مع مكتب استشاري لدراسة تداعيات السد وتأثيراته الوخيمة عليها، وعدم وجود تحركات إيجابية حاسمة من الدولة المصرية لتذليل الخلافات، حتى تاريخه لمواجهة التعنت الأثيوبي".
وهو يصف المسار الحالي للتعامل مع الأزمة بأنه " المسار العقيم لإدارة أزمة سد النهضة" الذي أدى إلى تواضع تطلعات المفاوض المصري، الذي أصبحت كل أحلامه تتمثل في "إطالة فترة التخزين الأولى للسد والاتفاق على قواعد عامة لتشغيله، بما يقلل نسبيا من أضراره على مصر، لكن هذا التصور الذي كان وما زال مقترحا أمركيا خالصا، لن يحقق لمصر إلا أقل القليل كمسكن وبصفة مؤقتة ولفترة محدودة".. و"إطالة فترة التخزين لو وافقت إثيوبيا عليها لن تتعدى جعل فترة الملء خمس سنوات، بدلا من ثلاث وهذا على أحسن الفروض، وبالتالي تأجيل ظهور الآثار الكارثية للسد على مصر".
وتكمن قوة موقف الوزير السابق، ليس في أنه واحد من أهل الاختصاص، لكنه بالإضافة إلى هذا، نجح في تبسيط هذا الموضوع الفني المعقد ليفهمه القارئ العادي، وما كنت أعلم أنه يملك القدرة على كتابة المقالات الصحفية، وقد كنت أرى له مقالات في الصحف عندما كان وزيرا لم أهتم بقراءاتها. والأكثر من هذا خطورة، هو أنه لا يكتفي بطرح الأزمة والتحذير من خطورتها على الأمن القومي المصري، حيث "سيدرك الجميع بعد فوات الأوان أن مصر لا تستطيع تحمل تداعيات سد النهضة، الذي سيؤثر تأثيرا مباشرا في استقرار الدولة وأمنها القومي"، لكنْ لديه في كل مرحلة حلول لتدارك الموقف، بدأ في مرحلة سابقة بدعوته لتدويل القضية، وبسحب البرلمان لموافقة عبد الفتاح السيسي لبنائه، ثم انتهى به إلى العمل من خلال المفاوضات على تقيل الآثار السلبية الواضحة للجميع، بتقليل سعة السد التخزينية "وهو ما ترفضه أثيوبيا وتخجل مصر منه لسبب لا أعلمه".
هذا هو "بيت القصيد" فهناك سبب لا يعلمه الوزير السابق، يمنع مصر من المطالبة بهذا المطلب البسيط!
لقد جعل "نصر الدين علام" من قضية السد، قضية حياة أو موت بالنسبة له، فكتب المقالات التي نشرت في العديد من الصحف، ونشرت التغريدات على مواقع التواصل الاجتماعي، وألف كتابا حول الأزمة، واستمعت للدكتور مصطفي الفقي يقول إنه التقاه، فحدد له موعدا مع الرئاسة ليسلمها ملفا بالأزمة ووجهة نظره في حلها، ثم تقدم ببلاغ للنائب العام ضد وزير الري اتهمه "بالإهمال الجسيم في صميم عمله أدى إلى مقتل عشرات من الأطفال والنساء والرجال والشيوخ، وتلف محاصيل عشرات الآلاف من الأفدنة من أجود الأراضي الزراعية".
ومشكلة "علام"، أنه صعيدي مثلي، للدقة هو "بلدياتي"، وقد ترشح على دائرة "جهينة" وكتبت مقالين ضده حول هبوطه على الدائرة بـ "البارشوت"، دون سابق إعلان، فهو وإن كان من البلد نفسه الذي أنتمي إليه، إلا أنه لم يولد ويتربى فيه، ولم يكن بيننا من تواصل إلا مرة واحدة يتيمة اتصل بي هاتفيا، وتحدث معي حديثا قبليا بحتا عن علاقة والده التاريخية في محافظة الإسكندرية بأفراد من عائلتي، وطلب أن نلتقي، ولم أهتم!
ويتميز أهل الصعيد، بطيبة القلب، التي تجعلهم لا يصدقون كثيرا من البديهيات، فهو تعامل على أن الأزمة كلها في وزير الري، الذي أهمل وقصر في موضوع السد، وربما بحسن نية لأنه يفتقد للمعلومات المهمة حول الأزمة، وأنه من ضلل "القيادة السياسية" لا يهم إن كان بسوء نية أو بحسنها، فالمهم أن هذا قد حصل!
ولأن "علام" رجل صعيدي، فلم يفهم أن يكون التحذير بالسكوت الصادر من السيسي هو لشخصه هو، وربما لأنه ظن أن الحديث عن الموضوع عن غير علم لا يخصه، فهو من أهل الاختصاص بحكم تخصصه الدقيق، في التخطيط وشبكات الصرف الصحي، وبحكم كونه أستاذ الري والهيدروليكا، ولم ينتبه إلى أنه فوق كل ذي علم عليم، وفوق كل أساتذة الجامعات في كل تخصص يوجد "طبيب الفلاسفة وفيلسوف الأطباء".
بدلا من أن يستدعي النائب العام وزير الري ليحقق معه، جرى استدعاء "نصر الدين علام" للتحقيق في بلاغ يتهمه بالاستيلاء على أراضي الدولة، لعله يفهم، أن المشكلة ليست في وزير الري!
لا أستطيع أن أنفي أو أثبت الاتهام الذي وجه للوزير السابق، والذي بمقتضاه أخلت النيابة سبيله بكفالة قدرها مئة ألف جنيه! لكن ما أفهمه أن قضايا الفساد تجري فيها التسوية مع جهاز الكسب غير المشروع، وليس بالمحاكمة وسين وجيم، وإخلاء السبيل بكفالة، والنشر في الصحف عن أن الرجل فاسد، فدعكم من كلامه في موضوع سد النهضة!
وما أفهمه كذلك أن الاستيلاء على أراضي الدولة هو من الملفات المتخمة التي لا تتخذ فيها إجراءات قانونية بالإدانة، وهناك بلاغ تحقق فيه النيابة عن استيلاء توفيق عكاشة على (5500) فدان، لم نقرأ أن استدعاء تم له، ولم نسمع أنه خرج من التحقيق بكفالة.
يا إلهي إنها مدرسة مبارك ذاتها، التي استهل بها عهده بتوظيف قضايا الفساد للنيل من خصومه ومعارضيه!
اللافت أن وزير الري في دولة مبارك خرج من النيابة، وقد كتب "بوست" يهتف فيه بسقوط سد النهضة، وبسقوط من فرط في حقوق مصر التاريخية من مياه نهر النيل!
بدأ يفهم، فربط بين التحقيق معه في قضية الفساد، وبين موقفه من سد النهضة، لكن المدهش أنه مايزال يتعامل على أن المشكلة هي في وزير الري، وكما عناه في مقالاته وهو يتهم الموقف المصري بالفشل، وكما عناه في بلاغه للنائب العام فقد عناه في الهتاف بسقوط من فرط في حقوق مصر التاريخية!
حسنا، لقد أقيل وزير الري بعد ساعات قليلة من نشر "البوست"، ومع ذلك سوف يستمر التحقيق مع صاحب "البوست" معه، كما سيتسمر مسلسل التفريط، لأن من فرط يا معالي الوزير لم يسقط، وأول حرف من اسمه "عبد الفتاح السيسي".
ويا أيها الرجل الغامض توقف عن "طيبة أهل الصعيد"؛ لكي تكمل معركتك على بينة أو تتوقف على بينة!.