كتاب عربي 21

جعلوا فلسطين فولكلورا

جعفر عباس
1300x600
1300x600
بصفة عامة، يمكنني القول إنني لا أقرأ افتتاحيات الصحف العربية "عمداً"، بمعنى أنني أقرأها بشكل انتقائي، كلما جد جديد في الساحة السياسية، وبما أنه – في تقديري على الأقل – لم يجد جديد فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية لأعوام طويلة، فقد توقفت عن قراءة الافتتاحيات والمقالات التي تتناول تلك القضية، لا لسبب سوى أنها مكررة ورتيبة ومملة. فلا مجال لاسترداد الأرض "ما لم يتم بلورة موقف عربي موحد" لمواجهة "العدو المتغطرس الذي يتلقى دعماً بلا حدود من واشنطن". وأكثر ما يغيظني هو ان تتحدث الصحافة العربية عن "القضية المصيرية" و"المصير المشترك". و"الموقف العربي الموحد".

العرب الرسميون وبعض صحافتهم يتعاملون مع القضية الفلسطينية كـ "أداء واجب" ومن باب "إبراء الذمة"، وكم من كاتب أشهر قلمه لعشرات السنين في وجه "العدو الغادر"، ثم طار إلى حضن نفس العدو بمجرد حصوله على الفيزا الضرورية وبات يحاضرنا حول الأساليب الحضارية للتعامل مع الخصوم (وليس الأعداء)، وهؤلاء الكتاب أقل وزرا من أولئك الفلسطينيين الذين ياما ألهبوا حماسنا بأشياء مثل:

ونحن أناس لا توسُّط عندنا  ...  لنا الصدر دون العالمين أو القبر

ولكن ما إن وجدوا رقعة من الأرض لا تكفي حتى لدفن الموتى من الفلسطينيين، حتى باتو يحدثوننا عن البراغماتية والشرق أوسطية وياسين وبهية. أحيانا يخيل لي أن البعض يتعاطى القضية الفلسطينية كـ "فولكلور". فالإنسان يولد في العالم العربي ويرضع من ثدي أمه اهتماماً بمسألة فلسطين. وكما في الملاحم الاغريقية فإنه يسمع عن بطولات خارقة وأحداث مروعة، وعن فارس كان وآخر سيكون، ثم يشب العربي عن الطوق فلا يجد من حوله فارساً أو فرسا، بل وجوهاً جهمة عبوسة عليها غبرة ترهقها قترة، تفترس الحلم قبل أن يتشكل في الصحو والمنام، ومن ثم لا يجد الصحافيون العرب بدا من ممارسة أحلام اليقظة بالتحدث عن "بلورة الموقف وتوحيد الصف".

ثم ظهرت حيلة جديدة لتفادي تهمة اجترار المعلبات اللفظية، بظهور "قضية/ أزمة الشرق الأوسط"، بحيث صارت تعني ضمنا "قضية فلسطين"، مع أن الشرق الأوسط يعاني من أزمات جعلت المسألة الفلسطينية مجرد فولكلور مثل الأندلس، التي ما زال البعض يبكي على أطلالها، وكأنها كانت جزءا من بغداد ونقلها الإسبان الى جنوب غرب أوربا. فالشرق الأوسط يعاني من الجهل والتخلف والفساد والكبت والقهر والظلم والاستبداد، وهي أمور يتعذر طرحها في أوسلو أو إيكالها إلى ريال مدريد.

 وأذكر أنه وبعد أن قررت اسرائيل بناء مستوطنة هار حوما أو جبل أبو غنيم، سال مداد كثير ودموع غزيرة بعضها صادق وبعضها تمساحي، وكتبت وقتها مقالا في  جريدة "القدس العربي" خلاصته أن المستوطنة ستصبح أمرا واقعا لأن كلام إسرائيل "ماشي"، واستنكر قراء وكتاب جهابذة هذا القول وعدّوه انهزامية، بل هناك من اتهمني بالعمالة لإسرائيل، مع أن ما قلته كان أكثر واقعية من براغماتية المهرطقين الذين وعدونا "بحليب وبأقواس قزح".

(عندما صرع الجندي الأردني أحمد الدقامسة سبع فتيات إسرائيليات في مارس من عام 1997، تسابقت الصحف العربية – وبحسن نية – لتأكيد إصابته بلوثة عقلية. بينما أثبتت وقائع محاكمته أنه ليس مجنوناً، وأن الاحساس بالمهانة والذل هو الذي حدا به لارتكاب تلك الفعلة "البشعة".. نعم فمصرع التلميذات أمر مؤسف، ولا يخدم أي قضية، ولكنه كان نتيجة حتمية لممارسات أكثر بشاعة أدمنها الطرف الإسرائيلي).

وما أود أن أقوله باختصار هو أن الاقرار بحقيقة الأوضاع، أجدى وأنفع من استهبال واستغفال الذات بالحديث عن موقف عربي موحد، وعن الظفر الذي لا يطلع من اللحم. ولست ماسوكيا يتلذذ بإحباط الذات، بل أحسب أنني واقعي أكثر من المتهافتين على القصعة المتسخة التي تمدها إسرائيل لكل من يريد أن يلغ فيها.

بل إنني مؤمن على نحو قاطع بأن دولة فلسطين المستقلة ستقوم يوماً ما. ولكن بعد أن يرحل جيل الديناصورات الذي أدمن النفاق والشقاق والعقوق، وهو جيل ظل "ملطشة" ولا يعرف معنى حقيقيا للعزة والكرامة والشموخ، ورضي من الغنيمة بالذهاب إلى واشنطن والعودة بدون خفي أوباما أو كلينتون أو بوش أو ريغان أو كارتر، أو حتى "أبو مرزوق"!

وأعلن بكل صراحة ووقاحة وبجاحة، أن ثقتي – في ما يخص حق الفلسطينيين في العيش في دولتهم المستقلة فعلا – أن ثقتي في ما يخص هذه القضية في الدول الأوربية، أكبر من ثقتي في الدول العربية التي صارت تعاني مرضا نفسيا، وأصبحت من ثم فاقدة القدرة على "التركيز". فمعظم الرأي العام والبرلمانات الأوربية اليوم تقف بصلابة مع الحق الفلسطيني، ونحن نجعجع وهم يطحنون، والطحن ينتج شيئا ذا قيمة!!!
0
التعليقات (0)