أظهر الأتراك وحدة غير مسبوقة وإجماعا على التمسك بمبادئ الشرعية والشفافية والمساءلة في مواجهة أي مجموعة تسعى للانقلاب على تلك المبادئ من أجل مصالحها الخاصة.
قامت المحاولة الدموية للانقلاب في 15 يوليو الماضي بجمع الأتراك بشكل مدهش وواعد، فعلى النقيض من توقعات البعض، فإن المحاولة لم تسفر عن أزمة سياسية و/أو اقتصادية، بل هي خلقت حسّا جديدا للوحدة الوطنية والتوافق السياسي. وقد مثل التجمع الأكبر في تاريخ تركيا، الذي حضره الملايين في ساحة "يني قابي" في إسطنبول، وتفاعل معه الملايين في عموم البلاد، مثل دلالة على ذلك التوافق المجتمعي والسياسي الجديد. التوافق الجديد، الذي ظهر جليا في تجمع 7 أغسطس، قائم على أسس الاستحقاق والشفافية والمساءلة، وذلك في مواجهة محاولات التسلل والعبث في مؤسسات الدولة.
وبغض النظر عن المواقف والرؤى السياسية، فإن الجميع في تركيا متفق على تعزيز تلك المبادئ باعتبارها العناصر الأساسية لأي نظام ديمقراطي سليم.
يوجد إجماع واسع أيضا على انتهاك فتح الله غولن وأتباعه لتلك المبادئ لسنوات، سعيا منهم لوضع أعضائهم في كل موقع حساس في هياكل الدولة، حيث سرقوا أسئلة اختبارات في (مؤسسات) الدولة وزودوا أتباعهم بأجوبتها، ولفقوا العديد من التهم والأدلة للإطاحة بمعارضيهم داخل مؤسسات الجيش والشرطة والقضاء، علاوة على تسريب وثائق للإعلام وإطلاق حملات للتشويه بسمعة منافسيهم والتشهير بهم.
وبما أن الجميع قد دفع الثمن إبان ذروة نشاط تنظيم فتح الله غولن الإرهابي، خصوصا بين عامي 2008 و2013، فإن لسان حال المزاج العام في تركيا كأن يقول "كفى وكفى". يطالب الشعب بحكم قائم على أساس الاستحقاق والكفاءة والشفافية والمساءلة، حكم يخدم الشعب والدولة، ولا يخدم مصالح مجموعة بعينها، أو مصالح "إمام" مختل.
يطالب الشعب بنهاية لكابوس تنظيم فتح الله غولن الإرهابي، الذي دمر حياة العديد من الأشخاص البريئين خلال الأعوام الستة أو السبعة الأخيرة، وعلى الحكومة أن تستجيب لتلك المطالب، وستجد كل الدعم من الشعب. في هذا المسار الجديد، سيكون غولن شبكته العالمية المعروفة في تركيا بتنظيم غولن الإرهابي، أكبر الخاسرين بالتأكيد، فبهذه المحاولة الانقلابية، خسر غولن كل شيء، الأعضاء والمدارس والشركات والأموال، والأهم، خسارته الدعم والمصداقية والاحترام.
لقد فكر هو وأتباعه بالاستيلاء على الدولة من خلال انقلاب عسكري وشيطنة الرئيس رجب طيب أردوغان، إلا أن أكبر أخطاء حياته تحول إلى فرصة لتركيا لتعزز وحدتها وتماسكها في مواجهته، وفي مواجهة شبكته الإجرامية. لم يكن تجمع السابع من أغسطس الأكبر من ناحية الحضور وحسب، بل ومن ناحية الرمزية، حيث جمعت الرئيس أردوغان ورئيس الوزراء بن علي يلدريم، وزعيم حزب الشعب الجمهوري المعارض كمال قليجدار أوغلو، وزعيم حزب الحركة القومية المعارض دولت بهجة لي، إلى جانب العديد من أعضاء أحزاب سياسية أخرى. وأرسل جميع القادة رسائل متقاربة حول الوحدة في مواجهة محاولة انقلاب غولن، والمساعي الإجرامية وغير الأخلاقية لاعتلاء السلطة بأي ثمن.
هذه الروح الجديدة مهمة لمستقبل الديمقراطية التركية، حيث تدعم عملية تخليص جميع مؤسسات الدولة من تغلغل أتباع غولن، فقد تم بالفعل إثبات الاتهام لغولن وجماعته في أذهان الناس وضمائرهم، وعلى الدولة أن تقوم بالخطوات اللازمة. سيحاول غولن الآن، وهو يرى نهايته ودماره في تركيا، أن يجمع كل موارده وقواه لإعادة تنظيم مجموعته في الخارج، والسعي للهجوم مجددا باستخدام تكتيكاته المعتادة، مثل صرف الأموال وإطلاق حملات التشويه، وخصوصا عقد التحالفات مع أي جهة قد تملك رصيدا لدى أردوغان في سبيل تسوية ما. فالشعبية التي حازها غولن في الإعلام الغربي منذ 15 يوليو يجب أن تقرأ في هذا السياق، فتسويقه لنفسه على أنه البديل المعتدل للطرف الديني لا يحظى بمصداقية في تركيا أو في العالم الإسلامي، إلا أنها استراتيجية يسعى من خلالها للحصول على الدعم من الغرب.
ولكن ادعاءات ماكرة كتلك ستؤول إلى الفشل ما لم تحظ بثقة المسلمين أنفسهم، وستحول غولن إلى مجرد عميل وبيدق بيد القوى العالمية. لقد كانت التغطية الإعلامية الغربية لمحاولة الانقلاب في الأسابيع الثلاثة الماضية بعيدة عن العدالة والدقة، فهي لم تعكس مهنية الصحافة ومعاييرها الأخلاقية، سواء في نقل الخبر أو بناء الآراء. وبوضع متلازمة العداء لأردوغان التي يعاني منها الكثير من الصحفيين الغربيين جانبا، فإن نقل الصورة للديناميكية الاجتماعية والسياسية في تركيا لم يرق إلى مستوى الدقة.
إن هذا الأمر يقود إلى شكوك عميقة في مصداقية الإعلام الغربي وفي نظرياته حول الشفافية. إنه من المخزي، على أقل تقدير، أن تقوم تقارير بالتقليل من أهمية وخطورة محاولة الانقلاب الدموية، في حين تقوم باستخدام إجراءات ما بعد الانقلاب لشن هجوم آخر على أردوغان. يبدو بأن معايير المسؤولية الإعلامية منخفضة جدا عندما يدور الحديث حول تغطية أحداث تركيا. لقد استهدف انقلاب 15 يوليو الديمقراطية التركية وسعى لتقويض شرعية الرئيس المنتخب والحكومة. لقد كانت النتائج معاكسة، فتركيا موحدة أكثر من أي وقت مضى حول مبادئ الشرعية والشفافية والمساءلة، في وجه أي مجموعة، وكل مجموعة، قد تسعى للانقلاب على تلك المبادئ أو العبث بها من أجل مصالحها الخاصة".