يناقش الأتراك منذ الخامس عشر من الشهر الماضي في برامج تلفزيونية ومواقع التواصل الاجتماعي مسائل عديدة متعلقة بالجماعات الدينية، لأن محاولة الانقلاب الفاشلة التي هزت
تركيا قامت بها مجموعة من الضباط الموالين لجماعة غولن التي نجحت خلال حوالي أربعة عقود في تشكيل كيان موازٍ تغلغلت خلاياه في أجهزة الدولة.
جماعة غولن التي أسسها ويقودها حاليا فتح الله غولن، المقيم في مزرعة فاخرة بولاية بنسلفانيا الأمريكية، ظهرت في بدايتها كجماعة دينية واجتماعية، وواصلت أنشطتها تحت هذا الغطاء لسنين طويلة. ولذلك حظيت بتعاطف شريحة واسعة من المجتمع التركي. وكان المواطنون يقدمون تبرعاتهم إليها بسخاء، ظنا منهم أنهم يدعمون أنشطة دعوية إسلامية تقوم بها الجماعة سواء داخل تركيا أو في آسيا الوسطى وأفريقيا وغيرهما.
لم يجد الآباء والأمهات بأسا في التحاق أبنائهم بالمدارس والمؤسسات التعليمية التابعة لجماعة غولن، لأنهم رأوا أن دراسة أبنائهم في تلك المدارس والمؤسسات يختصر لهم الطريق إلى النجاح، كما أنه يسهل لهم الحصول على وظائف مرموقة في الدوائر الحكومية والترقية إلى مناصب عالية.
كانت الجماعة توفر للطلاب الأذكياء من أبناء الطبقة الفقيرة فرص التعليم والوظيفة وحتى الزواج. وفي الوقت الذي يخوض فيه شباب آخرون سباقا محموما ومنافسة قوية من أجل الحصول على تلك الفرص، فقد كان أحدهم يلتحق بالمدارس العسكرية بسهولة أو يدرس الماجستير والدكتوراه في الجامعات الأهلية الغالية خارج البلاد بدعم الجماعة، ويتزوج من بنات الأسر الموالية لها. وبعبارة أخرى، فقد كانت الجماعة تضمن له التعليم والوظيفة والترقية وحتى الزواج، بالإضافة إلى اعتقاده بأن الجنة أيضا مضمونة له في مقابل انتمائه إلى الجماعة والخدمات التي يقدمها لها. وكل ذلك في مقابل تسليم إرادته وحريته إلى زعيم الجماعة فتح الله غولن وامتثاله لجميع أوامره.
وظلت جماعة غولن حتى الماضي القريب تجذب هؤلاء الذين يسعون وراء مصالحهم الدنيوية، سواء من الطلاب والطالبات أم من رجال الأعمال والسياسيين والأكاديميين والصحفيين وغيرهم، نظرا لنفوذها الواسع في أجهزة الدولة بما فيها الأمن والقضاء والتعليم العالي، ولكنها بدأت تفقد بريقها بعدما دخلت في صراع شرس مع الحكومة التركية وشنت حربا ضروسا ضد الإرادة الشعبية. وأما بعد محاولة الانقلاب الفاشلة التي قتل فيها الضباط الانقلابيون الموالون للجماعة عشرات من المدنيين والعسكريين ورجال الشرطة فأصبح معظم هؤلاء يعلنون عدم ارتباطهم بالجماعة تنظيميا، لأن الوقوف إلى جانبها لم يعد يخدم مصالحهم وتطلعاتهم.
في الحقيقة، لم يكن ارتباط كثير من الموالين للجماعة ارتباطا دينيا وفكريا، ولم ينضموا إليها لتلقي الدروس في التفسير والحديث وغيرهما، بل كانت مصالح دنيوية والرغبة في استغلال نفوذ الجماعة وراء انضمامهم إليها وبقائهم في صفوفها، وإن حاولوا إخفاء ذلك من خلال رفع شعارات دينية واجتماعية، بخلاف الجماعات الإسلامية التي ينتمي إليها أعضاؤها غالبا لإيمانهم بآراء تلك الجماعات ومعتقداتها واعتقادهم بأنهم من خلال انتمائهم لها يسيرون في الاتجاه الصحيح نحو النجاة.
الجماعات الدينية قد تحتاج إلى الانشغال ببعض الأنشطة السياسية والاقتصادية والمشاريع الاستثمارية لدعم أنشطتها الدينية والدعوية والتربوية والحفاظ على استقلاليتها، إلا أن الأمر في جماعة غولن يختلف تماما، لأن أنشطتها كلها كانت تهدف إلى التغلغل في أجهزة الدولة والسيطرة عليها، وطغى الجانب الدنيوي المادي على الجانب الديني الروحي، واستمر هذا الانزلاق حتى تتحول الجماعة إلى تنظيم إرهابي مسلح يتآمر على تركيا ويستهدف أمنها واستقرارها.
تركيا تمر حاليا بمرحلة خطرة وتواجه تحديات كبيرة، في ظل المعارك المحتدمة في المنطقة. وهناك قضايا هامة وتطورات ساخنة تشغل الرأي العام التركي، إلا أن المسائل المتعلقة بالجماعات وحقيقة دورها في المجتمع يجب أن تتم مناقشتها بكل جوانبها، حتى وإن انزعجت أطراف مرتبطة بالجماعات الأخرى من النقاش الدائر حاليا حول هذه المسائل، بسبب خوفها من تسليط الضوء على أنشطة جميع الجماعات الدينية، لأن هذا النقاش ضروري لتفادي تكرار تجربة الكيان الموازي وبناء مجتمع واعٍ قادر على مواجهة التحديات ومحاولات الاختراق.