كتاب عربي 21

الجزيرة من قطر... معركة الوعي العربي

محمد هنيد
1300x600
1300x600
احتفلت قناة الجزيرة العربية بعيد ميلادها العشرين بحضور مؤسّسها ونخبة من الإعلاميين العرب لتعلن عن حلتها الجديدة ولتحتفل بعقدين من معارك الوعي ضد التضليل وضد السبات وضد الرأي الواحد والمصدح الواحد والشاشة الواحدة. لا يُنكر إلا جاحد أن الجزيرةَ  هي قصةُ النجاح العربية الوحيدة إعلاميا والتي تُحسب لدولة قطر ولمؤسسها الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني.

لقد حققت نقلة نوعية في وعي الإنسان العربي بنفسه وبلغته وبمصيره وبأم المعارك التي يخوضها على كل الجبهات المفتوحة إلى اليوم. لكنها من جهة أخرى كشفت أجزاء مظلمة من واقع الأمة ما كانت لتكشفها لولا توافق نشأتها مع لحظات مصيرية في تاريخ الأمة العربية المسلمة. لقد كشفت الجزيرة زيف المنظومات الفكرية والإيديولوجية وزيف النخب المرتبطة بها وكشفت امتداد الصحراء وعمق الفقر الوجودي الذي يعيشه الإنسان العربي فيكبل فكره ويده.  

لقد وافقت نشأة الجزيرة لحظات مفصلية في تاريخ الأرض العربية وسكان أقطارها فقد تزامنت مع ثلاثة أحداث حاسمة وهي: هجوم الحادي عشر أيلول/سبتمبر 2001 ثم الغزو الأمريكي واحتلال العراق وأخيرا ثورات الربيع العربي. 

كانت هاته الأحداث الجسام التي غيرت المشهد العربي بشكل عميق ولا تزال عبارة عن رافعات دفعت بالجزيرة وبخطابها إلى سطح الإعلام العربي وتربعت عليه لمدة طويلة قبل أن تتناسل القنوات الناطقة بالعربية ـ نطقا فقط ـ لا من أجل مزاحمتها أو منافستها بل من أجل التشويش على خطابها والحد من قدرتها الفائقة على استنهاض الوعي بفعل الصدمة أحيانا وبفعل التحليل الرصين غالبا. 

أحدثت الجزيرة حالة من الهلع لا في وسط النظام الاستبدادي العربي وأبواقه الإعلامية المنفردة بالرأي وبالخطاب المسبح بحمد الحاكم فحسب بل خاصة في أوساط الإعلام العالمي والغربي منه بشكل خاص وقد استشعر خطر الوعي يدب إلى هذه الأمة النائمة ويوشك أن يوقظها من سباتها الذي طال. هكذا تناسلت القنوات الناطقة بالعربية في فرنسا وبريطانيا وروسيا وأمريكا ... وكأن الجميع صحا فجأة على عالم عربي يتحرك وعيُه ويهدّد بالنهوض.

أما نظام البؤس العربي وأبواقه المجلجلة فقد اكتفت ـ بحكم سقف الخطاب لديها ـ بشيطنة الشبكة الإعلامية وبشيطنة قطر وهي تستعيد نفس الأسطوانة التي كان يرددها وزير الحرب الصهيوني وحارس الخمارات السابق في مولدافيا "أفيغدور ليبرمان". الوزير الصهيوني ربط في أكثر من مناسبة بين الجزيرة وبين دعم الإرهاب وهو يقصد حسب المعجم الصهيوني حركة المقاومة في فلسطين. نفس الأبواق العربية نسيت أو تناست كيف كاد مجرم الحرب بوش الابن يقصف مقر القناة في الدوحة عندما فضحت الجزيرة جرائم عصابات الاحتلال الأمريكية في العراق وفي أبو غريب.

من جهة أخرى يكون من الحيف التحليلي إنكار النزيف الذي كبّدته الثورات العربية للقناة وذلك لسبب رئيسي وحيد حسب قراءتنا وهو أن هذا الحدث كان حدثا عربيا داخليا في حين كان الحدثان السابقان أي هجوم مركز التجارة العالمية وحرب العراق الثانية حدثين خارجيين أساسا.

هجوم الحادي عشر أيلول سبتمبر 2001 دفع بتنظيم القاعدة إلى السطح الإعلامي وكانت الجزيرة سبّاقة في نقل تسجيلات التنظيم فكانت القناة بذلك واقعة في صف المعتدَى عليه أو المتهم أي العرب والمسلمين ولم يكن إعلام العار العربي الرسمي ليجرؤ على مهاجمتها خوفا من ردة فعل الجماهير يومها.

أما الحرب على العراق فكانت حاسمة في تحديد السقف المتقدم الذي تقف عنده القناة اليوم وهو ما كلّفها ودولةَ قطر كثيرا على المستوى السياسي والدبلوماسي خاصة. كانت الجزيرةُ عين العرب وعين الجماهير التي ترقُب مراحل الحرب على شاشة عربية ذات مصداقية لأول مرة في تاريخها بعد أن كانت خلال حرب الخليج الأولى تستقي الأخبار المزيفة من القنوات الأمريكية والأبواق التابعة لها. هكذا لم يؤثر الحدثان على القناة تأثيرا كبير رغم الحنق الشديد للنظام الرسمي العربي من خطها التحريري الذي سمح لكثير من المعارضين والممنوعين بالتعبير عن آرائهم بكل حرية. 

لكن ربيع الشعوب العربية كان أمرا مختلفا تماما فقد كان حدثا عربيا ـ عربيا بامتياز رغم كل امتداده الخارجية بل يمكن القول إنه كان أخطر من الحرب الأمريكية على العراق ومن أحداث أيلول سبتمبر 2001 معا.

إلى اليوم لا زال هناك من يردد أن الجزيرة هي التي تقف وراء ثورات الشعوب أو ـ الفتنة ـ كما تسميها أبواق الثورة المضادة وهو تصور لا يخلو من الصحة وإن أريد به باطل مطلق. الجزيرة واكبت الثورات منذ اندلاعها وإن كانت لا تتصور أن يصل الحد بالحراك الاجتماعي إلى مرحلة إسقاط أنظمة وتغيير منطقة بالكامل. هذه المواكبة هي التي دفعت الجماعة إلى اتهامها بأنها وراء الثورات إذ جرت العادة عندهم على التعتيم الممنهج على كل شرارة للتغيير الاجتماعي. لكن من جهة أخرى لا يمكن أن ننكر أن ما قدمته الجزيرة للوعي العربي على مدى عقدين من الخبر والتحليل قد أحدث حقا قطيعة معرفية كبيرة مع الوعي الجمعي السابق لنشأة القناة.

لمّا تحركت القناة بخطها التحريري المعهود داخل المربّع العربي العربي لأول مرة في تاريخها كانت ردّة الفعل العربية الرسمية شديدة إذ أن رسالة القناة وخطابها تماهى إلى حدود التماثل والتطابق أحيانا مع أصوات الجماهير في الساحات والميادين أي أن صدق الخبر وصدق التعليق جعل المشاهد لا يفرّق بين خطاب الشارع على شاشة القناة وبين نقل القناة لخطاب الشارع. 

وعندما بدأت الأنظمة الاستبدادية تتحرج انتشت الجماهير العربية بعد عقود من الظلم والطغيان وانتشت معها القناة التي كانت دائما صوت المحرومين والمسحوقين لكن سرعان ما استعادت الدولة العميقة بعضا من عافيتها. وكان الانقلاب المصري منعرجا حاسما في الحرب الإعلامية بين إعلام الاستبداد وقناة الجزيرة فشنت أبواق النظام العسكري المصري أبشع الحملات وأشنعها ضد القناة وضد دولة قطر وصلت حدّ اعتقال الصحفيين والاعتداء عليهم وحرق معداتهم. وهي حملة بلغت مستويات عالية من التجريح خاص في مصر من طرف إعلام الانقلاب المأجور الذي لم يستثن أفراد العائلة الحاكمة في قطر قصد تحقيق قدر أقصى من الأذى لإسكات القناة وإخماد صوتها. 

اليوم وبعد أكثر من نصف عقد على ثورات الشعوب وما خلفه نظام الموت العربي من آلاف الشهداء وملايين المهجرين يمكن القول أن تجربة الجزيرة وفعلها في الوعي الجمعي للإنسان العربي يضاهي سنوات من التطور الطبيعي لإدراك الفرد أي أنها اختصرت في سنوات قليلة ما كان يتطلب عقودا وعقودا من التجربة والخطأ.

قلما تجد اليوم موقفا علميا موضوعيا من أداء الجزيرة الإعلامي بل إنّ الغالب مواقفُ مدافعة عن القناة بشراسة كبيرة أو معادية لها بحقد بالغ لأن الجزيرة لم تعد في الحقيقة قناة إخبارية بل تحوّلت رغما عنها بوصلةً للرأي ومحرارًا لإدراك السويّ وإلى صورة من أجلى مظاهر وعي الانسان بالحرية وبشروطها في صحراء ممتدة من صحاري التزييف العربي. 
0
التعليقات (0)