يحاول العنوان الفرعي لهذا الجزء الأخير من الحفريات في التوافق أن يُحاكيَ الواقع التونسي المتسم بتعدد المرجعيات وبتداخل الأزمنة الثقافية. فرغم أنه توجد بين عقب أخيل- بما هو رمز للمكان القاتل للحياة السياسية-، وبين الحجر الذي أهمله البناؤون فصار رأس الزاوية في البناء الديمقراطي، مواقع كثيرة للتعامل العقلاني مع حركة النهضة دون شيطنة ولا أمثلة، فإن الغالب على التعامل مع هذه الحركة كان "العاطفة" وليس المقاربة العقلانية الباردة. على مدار تاريخها، استدعت هذه الحركة عند عموم التونسيين طيفا واسعا من المشاعر تراوحت بين حَدّي "الحبّ الغالي والبغض القالي". ونحن نتحدث هنا عمدا عن"المشاعر" باعتبارها محددا أساسيا للمواقف من حركة النهضة. فمن النادر أن فارقت مواقف النخب السياسية والنقابية والإعلامية من حركة النهضة دائرة المشاعر إلى دائرة الأفكار، وذلك مهما كانت الادعاءات الذاتية لأصحابها.
بعد 14 جانفي 2011 توحّدت "خطابات" القوى السياسية ضد عدو واحد هو النظام الحاكم قبل ثورة 17 ديسمبر المجيدة. ولكنّ هذا التوحّد لم يدم طويلا بحكم عوامل كثيرة ترتبط -في التحليل الأخير- بتعارض المصالح المادية والرمزية التي كان على أهم الفاعلين الجماعيين بعد الثورة أن يتنافسوا فيها. ولمّا كانت تونس لا تعاني من انقسامات عرقية أو طائفية فقد عملت العديد من الأطراف إلى حرف الصراع عن مساراته الطبيعية وجعله يتخذ سمة ثقافوية هووية، انحصرت أساسا في الصراع بين "الإسلاميين" و"العلمانيين".
بعد 14 جانفي 2011، لم يكن من اليسير إدارة الصراع ضد حركة النهضة على أساس أمني محض، وذلك على عكس التيارات السلفية وحزب التحرير اللذين لم يخفيا عداءهما للفلسفة السياسية الحديثة ورفضهما لمبدأ وضعية القوانين، بل لم تلبث السلفية الوهابية إلا قليلا لتصبح تهديدا حقيقيا لمبادئ العيش المشترك ولسلطة الدولة ذاتها. لقد أرهقت حركةُ النهضة بحكم اعترافها بقانون الأحزاب وقبولها شروط اللعبة الديمقراطية-مع إصرارها على مرجعيتها الإسلامية- العقل "الديمقراطي"-بكل أذرعه الإعلامية والسياسية والنقابية والأكاديمية-. فهذا العقل السلطوي -حتى في أكثر تجلياته معاداة ظاهرية لكل الأنساق السلطوية- كان يسعى إلى إرجاع النهضة إلى التمثل الرسمي للإسلام السياسي زمن المخلوع بن علي، وذلك عبر تثبيتها –بكثير من الاعتباطية وسوء النية- في التصورات النمطية للإسلام السياسي، بما هو مقابل مطلق للديمقراطية وبما هو عدو لدود لمنظومة حقوق الإنسان الكونية، وللمشترك الثقافي الذي اجتمع حوله التونسيون، ذلك المشترك الذي اتخذ اسما جامعا هو "النمط المجتمعي".
الترويكا: لحظة ما بعد دكتاتورية.. ولكن هشة
رغم الضعف البنيوي الذي اتسم به حكم الترويكا -بنواتها النهضوية-، ورغم التبخيس الممنهج الذي تعرضت له تلك التجربة، فإن تلك الحكومة مثلت حركة تقدمية في التاريخ السياسي التونسي. إنها تقدمية بمعنيين: بمعنى التعبير عن الإرادة الشعبية الحرة والبعيدة عن التلاعبات السلطوية، وبمعنى اشتراك الإسلاميين والعلمانيين في الحكم تعبيرا عن تلك الإرادة الشعبية. لقد كانت لحظة حبلى بالممكنات ولم تكن نتائجها معلومة سلفا، ولكنّ العديد من الأطراف –بزعامة الدولة العميقة – دفعت بأكثر من طريقة نحو إفشال تلك التجربة وشيطنتها حتى لا تتحول إلى "قطيعة سياسية" مع الموروث الفكري والمؤسساتي المهيمن على "النمط المجتمعي"، بتراتبياته ورمزياته وجهوياته وشبكاته الزبونية، وحتى يتيسر بعد ذلك إحياء"البورقيبية" باعتبارها ذلك الخطاب الكبير الذي ينبغي على كل الخطابات "الصغرى" -بما فيها الخطاب الإسلامي- أن تستمد شرعيته من "التوافق معه" أو على الأقل عدم الطعن الصريح فيه.
لقد غابت تقدمية تلك اللحظة السياسية - أو على الأقل هُمّشت- نتيجة عاملين أساسيين أحدهما موضوعي والآخر إيديولوجي: أمّا العامل الموضوعي فهو أداء الترويكا ذاته، وهو أداء اتّسم بالمحافظة، بل بالرجعية والردة عن أهم استحقاقات الثورة وانتظارات الناخبين. وقد عبّر الغاضبون على هذه الوضعية باستعارة صورة "الأيادي المرتعشة" العاجزة عن إحداث شروخ/انكسارات حقيقية في بنية التسلط الدستورية-التجمعية المهيمنة على الشأن العام منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا. وأما العامل الإيديولوجي فهو توحد الأغلب الأعم من القوى "العلمانية" ضمن تحالف"ميتا-إيديولوجي، لم يكن هدفه تصحيح انحرافات الترويكا أو تعديل بوصلتها صوب أهداف الثورة بقدر ما كان هدفه إعادة التوازن للحقل السياسي "اليعقوبي"، المتسم بالتعارض المطلق مع "الإسلام السياسي" في جميع أشكاله، بل أساسا التعارض مع الحركات الإسلامية التي تستعصي على النمذجة والصور النمطية والتمثلات المخيالية التي لا مرجع لها في الواقع. فالسلفية والتحرير لا يخرجان عن نماذج القراءة والفهم الموروثة عن الزمن الاستبدادي وأنظمة التسمية المهيمنة عليه، أما حركة النهضة فإنها –لأسباب فكرية وتنظيمية- لا تقبل تلك القراءات المبتسرة والقائمة على منطق المجهود الذهني الأدنى، ولكنّ هذا الواقع الجديد لم يمنع أغلب النخب من معاملتها بمنطق صدامي، بلغ أحيانا درجة الصراع الوجودي وذلك دفاعا عن مصالح رمزية ومادية، كانت الترويكا تمثل تهديدا جديا وغير مسبوق لها.
التوافق: تحالف براغماتي في أفق المنظومة القديمة
قبل الانتخابات الرئاسية والتشريعية التي وقعت سنة 2014 اشتد الصراع بين مكونات "العائلة الديمقراطية" بقيادة نداء تونس - وهو الوريث الشرعي للتجمع الدستوري المنحل ولشبكات المصالح المادية والرمزية التي أنبنت حوله- وبين حركة النهضة باعتبارها جسما غريبا عن بنية السلطة ومنطقها. وقد استطاع السيد باجي قائد السبسي –ومن ورائه المنظومة القديمة- الدفع بالقضايا الهووية الثقافوية إلى واجهة المشهد وتهميش القضايا الاقتصادية والاجتماعية، التي كانت القادح الأساسي في الثورة. ولكنّ براغماتية السيد قائد السبسي كانت تعي جيدا استحالة الحكم –أو استحالة إعادة التوازن ولو جزئيا للمنظومة القديمة- دون تشريك حركة النهضة ولو صوريا. وكانت حركة النهضة تعي جيدا استحالة أن تعود إلى واجهة السلطة –بل كانت تعي أيضا انعدام مصلحتها في حصول ذلك في وضع اقتصادي واجتماعي وأمني متفجر، ولا يتحمل الاحتقان الذي حصل زمن الترويكا.
ولذلك كان من مصلحة النداء والنهضة- وربما من مصلحة تونس لو اعتمدنا مفهوم مكر العقل في التاريخ- أن يتوافقا "مؤقتا" وتكتيكيا، وهو توافق أكثر هشاشة من التوافق بين مكوّنات الترويكا؛ وذلك لأنه يتنزل ضمن رؤيتين استراتيجيتين متباينتين: فنداء تونس لم يعترف بصورة حقيقية بالإسلام السياسي مكوّنا ثابتا وأساسيا من مكوّنات الحياة السياسية، ولذلك كان يدفع النهضة-بل يبتزها أحيانا- للمضي قُدُما في مسار "التونَسة"، أي في مسار الانصهار اللامشروط في أسطورة "النمط المجتمعي التونسي" الذي هو تعبيرة مجازية هلامية عن بنية تسلط ذات جوهر جهوي تابع ومتخلف. ولذلك فإن السيد باجي قائد السبسي لم يتردد في جميع تصريحاته عن بيان الطبيعة المؤقتة للتحالف مع النهضة، كما سعى إلى إضعاف موقفها عبر توسيع "التوافق" إلى "حكومة وحدة وطنية" ليست في حقيقتها إلا حكومة "جبهة الإنقاذ" أو حكومة"الجبهة الرئاسية". أما حركة النهضة فإنّ التحالف مع واجهة المنظومة القديمة ووكيلها الرئيسي سمح لها بـ "التطبيع" مع الدولة والتحرك داخل مؤسساتها لا على هامشها أو ضدها. كما وفّر لها هذا التحالف مقبولية دولية وإقليمية بحكم ارتباط نداء تونس بالمنظومة القديمة، وسعيه إلى إعادة إنتاجها مع إدخال بعض التعديلات الجزئية عليها، وهي تعديلات براغماتية قد يكون الاعتراف بالنهضة جزءا "وظيفيا" منها.
خاتمة
مهما كانت اعتراضاتنا على أداء الحكومات المتعاقبة على حكم تونس بعد الثورة، ومهما كانت المخاطر المهددة لمسار الانتقال الديمقراطي بعد عودة الكثير من رموز المنظومة الشيو-تجمعية إلى واجهة السلطة، ومهما كانت حدة الضغائن الإيديولوجية-التي هي تعبير مخاتل عن مصالح مادية واعتبارية كبيرة -، فقد بقي الصراع السياسي في تونس يدار بمنطق السياسة -حتى في مفرداتها الصدامية القصوى التي قد تبلغ مستوى الصراع الوجودي-. لقد أثبت الواقع التونسي إمكانية أن يتعايش الإسلاميون والعلمانيون بعيدا عن سياسات الإلغاء والإقصاء المتبادلَين وما ينتج عنها من كلفة بشرية عالية، كما أثبت التجربة التونسية أنّ حصر الخلاف داخل الحقل السياسي وإبعاد المؤسسات العسكرية والأمنية عنه، هو شرط ضروري لأي اشتغال طبيعي للحقل السياسي. وسواء رأينا في التوافق تعبيرا عن توازنات داخلية وعن حسابات عقلانية من جميع المتصارعين، أم رأينا فيه تجليا لإرادة دولية وإقليمية، إرادة قاهرة دفعت بأهم الفاعلين الجماعيين إلى "كبت" اندفاعتهم نحو تَونَسة "الحل النهائي" بصيغه الصدامية المعروفة، فإنّه-أي التوافق- يُعتبر لحظة مهمة وتقدمية في تاريخ تونس. ولا تأتي أهميته وتقدميته من أدائه وخياراته الكبرى –فهو موجّه أساسا لخدمة المنظومة القديمة في المستوى المنظور على الأقل- ولكن تأتي تلك الأهمية والتقدمية أولا من محافظته على الحد الأدنى من الحريات الفردية والجماعية اللازمة للضغط على النظام وتغييره بالتراكم، وتأتي ثانيا من دور التوافق في تجنيب البلاد استراتيجيات أكثر كارثية من مجرد تكريس التبعية والتخلف (كتلك السيناريوهات التي كان بعض الموتورين يحرضون عليها، للدفع نحو الاحتراب الأهلي عبر تَونسة السيناريو المصري أو عبر إحياء الممارسات الأمنية-النوفمبرية).
سواء أبدأنا التأريخ للدولة التونسية باللحظة الفينيقية أم بدأنا ذلك التأريخ بالفتح الإسلامي أم بدأناه بالاستقلال عن فرنسا وبناء الدولة الحديثة، فإنه لا أحد يستطيع أن يجادل بأن الحاضر الأبرز في تلك السرديات جميعا هو الاستبداد وأحادية الصوت وتغييب الإرادة الشعبية، أمّا الغائب الأبرز فقد كان دائما هو تعددية الأصوات وقبول الاختلاف والاحتكام إلى صناديق الاقتراع في الوصول إلى السلطة وتدوالها سلميا. ولا شكّ في أنّ التوافق بين الإسلاميين –وليس فقط حركة النهضة- وبين العلمانيين هو شرط ضروري –وغير كاف- لتفكيك بنية التسلط الاستبدادية الراسخة منذ قرون، وهو أيضا شرط لتكريس التعددية وثقافة الاختلاف ضمن مقاربات فكرية وأطر مؤسساتية، تكون محل قبول حقيقي من الأغلب الأعم من الفاعلين الجماعيين. وعلينا أن نعترف في ختام هذه السلسة من المقالات حول التوافق بأن الإشكال "الهووي" في المراحل الانتقالية ليس شأنا إسلاميا خاصا، بل هو ظاهرة تهم كل الفاعلين الجماعيين بمن فيهم القوى العلمانية التي عجزت حتى الآن عن تمثل مقدار القطيعة، التي أحدثتها الثورة التونسية مع الموروث السياسي المهيمن قبل 14 جانفي 2011.
إنّ محاولة بناء الجمهورية الثانية بعقل الجمهورية الأولى ومقارباته الأمنية المؤدلجة، والاشتغال السياسي بمنطق الضدية والتنافي والصراع الوجودي، هو أمر لن يزيد الأوضاع إلا تأزما. وهو ما يستدعي مراجعات جذرية وتنازلات حقيقية من الجميع لا من حركة النهضة –أو من الإسلاميين وحدهم-. ولا شك في أنّ أغلب من يريدون حصر الأزمة في حركة النهضة واستبعاد سواها، إنما يخدمون واقعيا استراتيجيات المنظومة القديمة ومصالحها "الرجعية"، حتى ولو ظنوا أنهم يتحركون في أفق"تقدمي" مناهض لسياسات ورثة التجمع الهادفة للعودة إلى مربع 13 جانفي 2011 أو حتى إلى مربع 11 نوفمبر 1987.