نشرت صحيفة "الغارديان" مقالا للكاتب البريطاني المعروف جورج مونبيوت، يقول فيه إن الأحداث التي أدت إلى انتخاب دونالد
ترامب هي ذاتها التي بدأت في إنجلترا عام 1975.
ويشير المقال، الذي ترجمته "
عربي21"، إلى أنه في اجتماع، بعد عدة أشهر من انتخاب مارغريت ثاتشر لزعامة حزب المحافظين، بدأ أحد زملائها بشرح المبادئ الأساسية التي يقوم عليها حزب المحافظين، كما رويت القصة، ففتحت ثاتشر حقيبتها وأخرجت كتابا رثا وصفقته على الطاولة، وقالت: "هذا ما نؤمن به"، وكانت تلك ثورة سياسية اجتاحت العالم.
وتبين الصحيفة أن "الكتاب هو (ذي كنستيتيوشن أوف ليبرتي/ دستور الحرية)، لمؤلفه فريدريك
هايك، الذي شكل نشره عام 1960 نقطة تحول من فلسفة صادقة، وإن كانت متطرفة، إلى احتيال مطلق. وبحسب الكتاب، فإن المنافسة هي الصفة التي تعرف العلاقات البشرية، وأن السوق هو الذي يحدد ترتيب الرابحين والخاسرين، وهو ما يبني نظاما أكثر نجاعة من أي نظام يمكن إقامته بناء على التخطيط أو التصميم، وأي شيء يعيق هذه العملية، مثل الضرائب العالية والتنظيم وأنشطة النقابات أوالنفقات التي توفرها الدولة، فكلها تأتي بنتائج عكسية، ويمكن لرواد الأعمال غير المقيدين أن ينتجوا ثورة تصل منفعتها إلى الجميع".
ويقول مونبيوت إن "هذه كانت هي الفكرة الأساسية، كما تخيلها هايك، لكن في الوقت الذي وصل إلى نشر الفكرة في كتابه (دستور الحرية) كان يمول شبكة من العاملين في جماعات الضغط والمفكرين، التي أنشأها أصحاب ملايين، رأوا في الكتاب فرصة للدفاع عن أنفسهم ضد الديمقراطية، وليس كل ما جاء في برنامج
النيوليبرالية كان يخدم مصالحهم، لكن يبدو أن هايك كان يحاول أن يسد فراغا".
ويضيف الكاتب أن "هايك بدأ كتابه بترويج أضيق مفهوم للحرية: وهو غياب الإكراه، ورفض مفاهيم الحرية السياسية، والحقوق العالمية، والمساواة بين البشر، وتوزيع الثروة، التي تتم جميعها بتقييد تصرفات الأثرياء والأقوياء، وتؤثر في الحرية التامة من الإكراه التي ينادي بها، أما الديمقراطية في المقابل فهي (ليست قيمة نهائية أو مطلقة)، وتعتمد على منع الأكثرية من ممارسة الخيارات بخصوص المنحى الذي قد تتخذه السياسة أو المجتمع".
ويلفت المقال إلى أن "هذا الموقف يبرر بصناعة سرد حول الثراء المفرط، وخلط بين النخبة الاقتصادية، التي تنفق أموالها بطرق جديدة، ورواد العلم والفلسفة، فكما يحق للفيلسوف السياسي الحرية في أن يفكر بما لا يمكن التفكير به، كذلك كبار الأثرياء الذين يجب أن يتمتعو بحرية فعل ما لا يمكن فعله دون قيود من المصلحة العامة أو الرأي العام".
وتقول الصحيفة إن "الأثرياء الكبار هم كـ(المستكشفين.. يجربون أنماطا جديدة من الحياة)، ويرسمون مسارات يتبعهم فيها بقية المجتمع، ويعتمد تقدم المجتمع على حرية هؤلاء (المستقلين) بالحصول على كل ما يرغبون من المال، وأن ينفقوه بالطريقة التي يرغبون فيها، ذلك كله جيد ومفيد، ولذلك ينشأ من عدم المساواة، ويجب ألا تكون هناك صلة بين الجدارة والمكافأة، ويجب ألا يكون هناك تمييز بين الدخل المكتسب وغير المكتسب، ولا حدود للأجور التي يمكن أن يطلبوها".
ويرى مونبيوت أن "المال الموروث أكثر فائدة اجتماعيا من المال المكتسب: (ثراء العاطل)، الذي لا يضطر للعمل للتكسب، حيث يمكنه تكريس نفسه للتأثير في (حقول الفكر والرأي من الأذواق والمعتقدات)، وحتى عندما يبدو أنهم ينفقون أموالهم على لا شيء سوى (الاستعراض غير الهادف)، فهم يعملون بصفتهم طليعة للمجتمع".
ويورد المقال أن هايك خفف من معارضته للاحتكار، وشدد من معارضته للنقابات، وانتقد الضرائب المتدرجة "نسبة أعلى لذوي الدخل الأعلى"، ومحاولات الدولة رفع مستوى الرفاه للمواطنين، وأصر على أن هناك "حجة قوية ضد توفير الخدمات الصحية المجانية للجميع"، بالإضافة إلى أنه رفض فكرة الحفاظ على المصادر الطبيعية، مشيرا إلى أنه يجب ألا يفاجأ من يتابعون هذه الأمور بحصول هايك على جائزة نوبل للاقتصاد.
وتعلق الصحيفة قائلة: "بحلول الوقت الذي قامت به ثاتسر برمي الكتاب على الطاولة، كانت هناك شبكة حيوية من مراكز البحوث وجماعات الضغط والأكاديميين، الذين يروجون لمعتقدات هايك على طرفي الأطلسي، وممولة من عدد من الأثرياء والشركات، بمن في ذلك تشارلز كوتش، وريتشارد ميلون سكيف، ولورنس فيرتيغ، وشركة دوبونت، وشركة جنرال إليكتريك، وشركة كورز للتخمير، وصندوق ويليام فولكر، ومؤسسة إيرهارت، واستخدم علم النفس واللغويات لتحقيق أثر كبير، حيث وجد المفكرون الذين وظفهم هؤلاء الكلمات والحجج اللازمة لتحويل ما قاله هايك إلى برنامج سياسي جدير ظاهريا".
ويقول الكاتب: "لم تكن الثاتشرية والريغانية عقيديتين بحد ذاتهما، بل كانتا وجهين للنيوليبرالية، فالتخفيض الكبير للضرائب التي يدفعها الأغنياء، وتحطيم النقابات، والتقليل من الإسكان العام، ورفع القيود، والخصخصة، والاستعانة بالمصادر الخارجية، والتنافس في الخدمات العامة، كلها ذكرها هايك أو أحد أتباعه، لكن الانتصار الحقيقي لهذه الشبكة ليس أسرها لليمين، لكن استعمارها للأحزاب التي كانت تناصر كل ما كان يمقته هايك".
ويضيف مونبيوت أنه "في هذا السياق، لم يكن بيل كلينتون وتوني بلير يملكان سردا خاصا بهماـ وبدلا من تطويرهما لقصة سياسية جديدة، ظنا أنه يكفي القيام بشيء من الحسابات، فقاما باستخلاص بعض العناصر التي كان حزباهما يعتقدان بها، وخلطاها مع بعض العناصر التي يؤمن بها الحزب المناوئ، وخرجا بخليط يمكن تسميته (الطريق الثالث)".
ويتابع الكاتب بأنه "كان لا بد للنيوليبرالية أن تجذب أكثر من الديمقراطية الاجتماعية، وانتصار هايك يبدو في كل شيء من توسيع بلير لمبادرة التمويل الخاص إلى إلغاء كلنتون لقانون (غلاس-ستيغال)، الذي يحظر على البنوك التجارية العمل في الاستثمارات، أما باراك أوباما، الذي لم يملك رواية (عدا "الأمل") فقد تم تطويعه ببطء لأولئك الذي يملكون قوة الإقناع".
ويواصل مونبيوت القول: "كما حذرت في شهر نيسان/ أبريل، فإن النتيجة هي أولا خسران التمكين ثم الحرمان، فإن منعت الأيديولوجية السائدة الحكومات من تغيير النتائج الاجتماعية، فإنها لن تستطيع الوفاء بتطلبات الناخب، وتصبح السياسة ليست مهمة بالنسبة لحياة الناس، ونخسر النقاش في دوائر النخبة، ويتحول المحرومون إلى معادين للسياسة التي تتحول فيها الحقائق والحجج إلى شعارات ورموز وإثارة. إن الرجل الذين أغرق أحلام
هيلاري كلينتون في الرئاسة هو ليس ترامب، بل زوجها".
ويجد الكاتب أن "المفارقة هي أن نتيجة ردة الفعل الغاضبة على سحق النيوليبرالية للخيار السياسي هي أن وضعت في سدة الحكم الصنف الذي يعبده هايك، ترامب، الذي لا يملك أي سياسة ذات معنى، وليس نيوليبراليا تقليديا، لكنه التمثيل الأنسب للشخص (المستقل) بحسب هايك، فهو وريث لثروة كبيرة، ولا يلتزم بالأخلاقيات السائدة، وميوله تشكل طريقا جديدا قد يريد الآخرون السير فيه، ويدور الآن حول هذا الشخص الفارغ مفكرو النيوليبرالية كلهم ؛ أملا بملئه بما يريدون ملأه به، وستكون النتيجة تقويض ما تبقى لدينا من أخلاقيات، ابتداء باتفاقية الاحتباس الحراري".
ويرى مونبيوت أن "من لديه قصصا يحكم العالم، فقد فشلت السياسة؛ نظرا لغياب السرديات المتنافسة، والمهمة الأولى هي أن نحكي قصة جديدة، وهي كيف أن تكون إنسانا في القرن الحادي والعشرين، ويجب أن تكون جذابة لمن صوتوا لترامب وحزب الاستقلال البريطاني بالوقت ذاته الذي تجذب فيه مؤيدي هيلاري كلينتون أو بيرني ساندرز أو جيرمي كوربين، ويعمل عدد منا على هذا، ويمكنهم أن يحددوا بداية القصة، ومن الباكر لأوانه الحديث أكثر، لكنها تعترف في جوهرها -كما تظهر الدراسات السيكولوجية والدماغية الحديثة- أن الإنسان، مقارنة ببقية الحيوانات، هو اجتماعي وغير أناني بشكل مبهر، فعملية تخفيض الإنسان إلى مستويات تشبه الذرة، وجعله يتابع مصالحه الخاصة، التي ينشرها دعاة النيوليبرالية، تتناقض بشكل كبير مع الكثير مما تحتوي عليه الطبيعة الإنسانية".
ويخلص الكاتب إلى القول: "أخبرنا هايك من نحن وكان مخطئا، والخطوة الأولى هي استعادة إنسانيتنا".