مع عودة اهتمام
تركيا بالشرق الأوسط مع العدالة والتنمية، زاد اقترابها من القضية الفلسطينية لعدة اعتبارات تاريخية وسياسية وثقافية ودينية، وبما يعزز دورها في المنطقة. وفي السنوات التي تمتعت فيها أنقرة بعلاقات جيدة مع واشنطن وتل أبيب فقد لعبت دور الوسيط في عدد من ملفات المنطقة مثل المفاوضات غير المباشرة بين سوريا ودولة الاحتلال في 2008 ثم الاتفاق الثلاثي بخصوص الملف النووي الإيراني في 2010.
وعلى صعيد القضية الفلسطينية، حاولت تركيا وما زالت تحاول لعب دور ما أقرب للوسيط بين الفلسطينيين و"الإسرائيليين" ودور آخر في تقريب وجهات نظر الفلسطينيين أنفسهم باتجاه المصالحة حيث ترى أن الانقسام الفلسطيني يضعف موقفهم أمام "إسرائيل" ويقلل من إمكانية أنقرة المساعدة.
يلتزم الموقف التركي في القضية الفلسطينية بالموقف الدولي أي حل الدولتين ويعتمد السقف العربي المتمثل بمبادرة السلام العربية، بل يدعو - أكثر من ذلك - إلى إشراك حركة حماس في العملية السياسية. ولئن حرصت أنقرة دائما - وما زالت - على التعامل من البوابة الرسمية الفلسطينية المتمثلة برئاسة السلطة الفلسطينية (السيد محمود عباس) إلا أن انتخابات 2006 أتاحت لها التعامل أيضا مع حركة حماس باعتبارها مكونا سياسيا رئيسا في المشهد الفلسطيني وحركة منتخبة، ورغم العلاقات المتنامية بين الطرفين على مدى السنوات السابقة إلا أنها لم تتخط يوما رئاسة السلطة، بل تحرص تركيا دائما على جمع الطرفين ما أمكن.
مع تدهور العلاقات التركية - "الإسرائيلية" بدءا من 2009 وصولا للقطيعة الدبلوماسية عام 2010، ثم توتر العلاقات التركية - الأمريكية تزامنا مع ثورات العالم العربي سيما الأزمة السورية وتبلور ملامح سياسة تركية خارجية تنحو نحو شيء من الاستقلالية النسبية، ثم أزمة العلاقات مع القاهرة بعد انقلاب تموز/يوليو 2013، تضاءلت جدا مساحة الفعل التركي الممكن فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية. ولعل المثال الأبرز لذلك هو الدور التركي المحدود خلال عدوان عام 2014 على غزة، بالمقارنة مع دورها خلال عدوان 2012 بالتعاون مع مصر.
وقبل التطرق إلى المتغيرات الأخيرة على هذه المستويات، ينبغي ألا تفوتنا الإشارة إلى أن الدور التركي في القضية الفلسطينية منوط أيضا بثلاثة عوامل رئيسة، هي المشهد الداخلي التركي، والوضع الإقليمي، ومدى "سخونة" الأجندة الفلسطينية، وفي الحقيقة فإن مجمل المتغيرات على هذه الأصعدة الثلاثة تخفض كثيرا من سقف التوقعات بشأن الدور التركي.
بيد أنه ثمة استثناءين مهمين لهذه القاعدة، أو لنقل عنوانان هما الأهم من منظور السياسة الخارجية التركية تجاه فلسطين، الأول هو حصار قطاع غزة كقضية إنسانية والثاني هو وضع مدينة القدس لاعتبارات تاريخية وسياسية باعتبار أن تركيا وريثة الدولة العثمانية آخر الدول التي سادت لها المدينة. ولعل احتضان رئاسة البرلمان التركي لفكرة ورابطة "برلمانيون لأجل القدس" وانطلاق مؤتمرها الأول قبل أيام في اسطنبول بمشاركة الرئيس التركي إشارة مهمة على هذا الصعيد.
بالعودة إلى المتغيرات، فلعل الأبرز فيها هو عودة العلاقات الدبلوماسية بين تركيا ودولة الاحتلال بعد اتفاق تطبيع العلاقات مؤخراً، الخطوة التي توجت بعودة السفير الصهيوني إلى أنقرة (يفترض أن يقدم أوراق اعتماده للرئاسة التركية اليوم) قبل أسبوع من العودة المفترضة لنظيره التركي إلى تل أبيب (12/12). فهذا الاتفاق، الذي كتبنا عن أخطاره الاستراتيجية على تركيا والقضية الفلسطينية ومكاسب دولة الاحتلال منه، يحمل هامشا لإمكانية لعب دور ما لتركيا من خلال "العلاقات" هذه المرة مع تل أبيب وليس "القطيعة".
سيكون متاحا لأنقرة أن تتحدث مع "الإسرائيليين" حول الوضع الإنساني في غزة ومحاولة زيادة المساعدات التي ترسلها إلى القطاع (وهذا لا علاقة له بالتوصيف القانوني والسياسي للحصار المستمر)، وسيكون بإمكانها التطرق لبعض السياسات الصهيونية العنصرية كما حصل في موضوع حظر الأذان الذي تحدث فيه اردوغان مع رئيس دولة الكيان، وربما يتطور الأمر لوساطة ما بخصوص تبادل الأسرى أو أي ملفات أخرى يكون أحد طرفيها حركة حماس التي تتمتع بعلاقات جيدة مع أنقرة.
على الصعيد الآخر، الفلسطيني الداخلي، ثمة من يأمل أن يكون المؤتمر السابع لحركة فتح فأل خير على المصالحة الفلسطينية الداخلية بعد الإشارات الإيجابية التي صدرت عن الطرفين، حماس بالمشاركة حضورا وكلمة وفتح بالتغاضي عن توصيف الانقسام وشكر مشعل. ورغم أن الأسابيع القليلة الفائتة أرتنا بوضوح أن عباس يقترب من حماس فقط بالمقدار الذي يساعده في منافسته الداخلية مع القيادي في فتح محمد دحلان، وبالتالي عدم توقع الكثير من الخطوات باتجاه المصالحة بعد أن حسم عباس الأمور في فتح لمصلحته، إلا أن الأمر يبقى متاحا من الناحية النظرية، وربما يتعزز أكثر بعد ترتيب فتح أوضاعها الداخلية وانتخابات حماس الداخلية التي يفترض أن تجري في النصف الأول من العام القادم.
في المحصلة، ليس ثمة ما يشير إلى اختراقات كبيرة محتملة على صعيد ما يمكن لأنقرة أن تقدمه في القضية الفلسطينية إذا ما أخذنا بعين الاعتبار الأجندة التركية في الداخل والإقليم وتطورات القضية الفلسطينية ذاتها. بيد أن عودة العلاقات بين أنقرة وتل أبيب من جهة والمتغيرات على الصعيد الفلسطيني الداخلي من جهة أخرى تتركان الباب مواربا لإمكانية لعب أنقرة دورا أو أدوارا ما حين تتاح الفرصة أو حين يطلب منها ذلك أو إذا ما أراد أحد الأطراف تفعيل دورها، بينما يستمر التفاعل التركي مع ملفي غزة والقدس بسقف معروف ومحدد كما سبق ذكره.