الكُتَّاب من حولي، معنيون بحال حلب وإدلب وإب وترامب (لاحظ أن هذه الأسماء التي تسبب المغص الكلوي تنتهي جميعا بحرف الباء)، وبعضهم يقف على أطلال عام 2016 غير آبه بنصيحة أبي نواس: قل للذي يبكي على رسمٍ دَرَس / واقفا ما ضرَّ لو كان جلس؟ ولكنني ظللت وعلى مدى شهرين هنا أعيش على سنام الذاكرة، لأبكي معظم سنوات القرن العشرين، الذي كنا خلاله في خسران مبين.
تذكرت على مدى ست مقالات متتالية زعماء يملأون العين والأذن والأنف والحنجرة، من أمثال ناصر وتيتو وسوكارنو، ولكنني لم أتوقف عند أكثر رجالات القرن العشرين استحقاقا للإشادة، وهو أول رئيس لوزراء الهند، جواهر لال نهرو، بطل استقلال الهند الحقيقي، والذي منع دولة تتألف من مئات الأعراق وتتكلم أكثر من الف لغة من التفكك.
وكي أقول كلاما طيبا في حق نهرو، لابد من تفكيك وخلخلة أسطورة المهاتما
غاندي (مهاتما تعني الروح الأعظم)، ولو كان متواضعا كما يصوره مريدوه، وكما توحي صوره الفوتغرافية بملابس بسيطة في رفقة معزة عجفاء، لما قبل لقبا يرفعه إلى مصاف آلهة الهندوس الآخرين، وبالمقابل هناك بوذا (المعروف أيضا باسم غوتاما)، الذي كرس عمره لتدريس تعاليم معينة، للارتقاء بالروح ومقاومة رغبات الجسد، ولم يزعم قط أنه نبي أو أنه يتلقى إلهاما من السماوات، وبعد وفاته بأكثر من قرن كانت دروسه تلك قد تحولت إلى "تعاليم"، وقام الكهان بتأليهه، رغم أن تلك التعاليم كانت شفاهية، ولم يزعم بوذا أنه صاحب "كتاب".
أما غاندي فقد تعمد كتابة أسطورته بنفسه، ولا سبيل لنكران أنه لعب دورا كبيرا في معركة استقلال الهند من بريطانيا، وأنه مبدع ما صار يعرف بالمقاومة السلبية، وكان أول من طرح العصيان المدني كسلاح سياسي لشل الحكم البريطاني في الهند، ولكنه نجح إلى حد كبير في تحويل أعداد هائلة من الهنود إلى كائنات سلبية ومستكينة، فبعد أن تقمص دور المفكر والقائد الروحاني، صار يهرف بأشياء عجيبة، مثل حثه الناس على الحرص على الفقر، بزعم أن الفقر والمعاناة ضروريان لتقوية الروح وتحصينها ضد الشهوات.
وبنفس الذريعة هجر زوجته كاستوبرا في الفراش عشرين سنة متتالية، وكان ينام على فراش واحد مع بنت أخته وكلاهما عاريان، ولما تهامس الناس بأن بينهما علاقة محرمة، زعم أنه يفعل ذلك أيضا مع بنت أخرى من عائلة إخوته، من باب "السيطرة على الشهوات"، ولم يعدم من يقول له إنه لو كان جادا في أمر السيطرة على شهواته بتلك الطريقة، لاستضاف في فراشه امرأة لا تربطه بها قرابة دم، وأن الرقاد في السرير "ربي كما خلقتني" مع المحارم دليل على أن هناك "شهوة" سواء سيطر عليها أو أفلتت منه.
ولم يكتف بهجره لزوجته لعقدين من الزمان، بل وعندما أصيبت بنزف حاد، جعلها طريحة الفراش، رفض أن يتم علاجها بالمضادات الحيوية، لأنها "عقاقير أجنبية"، فنزفت المسكينة حتى ماتت، ثم جاء الدور على ابنه هاريلال، الذي حاول إقناع أبيه بضرورة التحاقه هو وإخوته بالمدارس، ولكن المناضل غاندي خريج كلية القانون، عارض ذلك، وتمرد هاريلال على تعاليم أبيه، ووجد لنفسه مخرجا باعتناق الإسلام، فما كان من غاندي إلا أن تبرأ منه، وألزم جميع أفراد العائلة بمقاطعته، ولم يكتف بذلك بل اتهم ابنه ذاك بأنه اغتصب ابنته، وشن عليه حربا نفسية جعلته يغرق في الخمر، لتكون سببا لوفاته.
يفترض في كل من يقود أمة من سراديب ظلمات الاستعمار أن يكون داعيا للتنوير، ولكن غاندي فضّل الترويج لتخاريف زعم أنها روحية، كان جوهرها أن الفقر والجهل (بمعنى الأمية)، يؤديان إلى التطهر والتعالي على الصغائر، وكما أسلفت فقد كان من حسن حظ الهند أن من قادها إلى الاستقلال وتكريس الوحدة الوطنية (نهرو) الذي كان في بادئ الأمر معجبا بتعاليم غاندي، في بعض نواحيها رفض دعاوى أن الفقر والمعاناة ضروريان لبناء المواطن الصالح، بل ورفض ادعاءات غاندي بأن المدارس والمشافي والمحامون والأطباء رجس من عمل "البريطان" ينبغي التخلص منهم.
ولك أن تتساءل: لماذا كانت بريطانيا أكثر دول الأرض احتفاء بغاندي ونصبت له العديد من التماثيل في ميادين مدنها الكبيرة، إذا كان هو حقا من قوض أهم وأكبر ركن في إمبراطوريتها؟