Evet و hayir كلمتان تركيتان تعني الأولى "نعم" والثانية "لا"، أحرفهما قليلة، غير أن النخبة السياسية في
تركيا مستعدة في هذه الأوقات لدفع الغالي والنفيس ثمنا لهما لحسم سباق التصويت في
التعديلات الدستورية المرتقبة في السادس عشر من الشهر الجاري، من خلال حملات إعلامية وإعلانية ضخمة يمكن للمتجول في أي مدينة تركية ملاحظة حضورها في كل زاوية وشارع.
وإلى جانب الشكل الحضاري للتنافس الانتخابي، ممثلا باللافتات والمنشورات والمواكب السيارة التي تعزف الموسيقى والأغاني الوطنية، ثمة معركة شرسة تستخدم فيها أسلحة خطاب من العيار الثقيل للتنافس على الشريحة التي لم تحسم خيارها بعد.
فقبل أيام من
الاستفتاء المصيري وصلت حالة الاستقطاب في الدعاية الانتخابية مستويات غير مسبوقة بين طرفي المعادلة السياسية اللذين باتا يشكلان تمايزا واضحا بين يمين محافظ يتزعمه حزب العدالة والتنمية وأبرز داعميه الحركة القومية، ويسار علماني على رأسه حزب الشعب الجمهوري ويشاركه المعارضة حزب الشعوب الديمقراطي.
اقرأ أيضا: التايمز: لهذا تحتاج المنطقة لأردوغان قوي رغم خطر ذلك
وتشكل الخطابات الجماهيرية للقادة السياسيين في المدن التركية المادة الأغنى للدعاية، سواء لرفض أو تأييد الاستفتاء، كما توفر فرصة سانحة للرد على الخصوم وإظهار ضعف حججهم طمعا في التأثير على الرأي العام في ما تبقى من فترة قبيل الاستحقاق الانتخابي.
الضرب تحت الحزام
ويلاحظ المتابع للدعاية الانتخابية في تركيا سواء على صعيد الشكل أم المضمون تخطيها سقوفا عالية في تبادل الانتقادات بين الكيانات والشخصيات السياسية، بل لجأت في كثير من الأحيان إلى "الضرب تحت الحزام" وتجاوز للمحرمات كخيار اللحظات الأخيرة استعدادا لليوم المشهود.
التشكيك بالمحاولة الانقلابية جاء على لسان رئيس حزب الشعب الجمهوري كمال كليتشدار أوغلو الذي يترأس جبهة المعارضة للتعديلات الدستورية، وذلك على الرغم من مشاركته في المهرجان الخطابي في إسطنبول بعد المحاولة الانقلابية إلى جانب قادة باقي الأحزاب.
كما اعتمد خصوم أردوغان على دعاية تركز في مضامينها على التحذير من تحول البلاد إلى دكتاتورية وصلت لحد توزيع منشور مصور يرمز إلى أردوغان وقد اعتمر عمامة الخلفاء العثمانيين وارتدى لباسا عصريا وفي وجهه شارب هتلر.
أردوغان يرد بقسوة
كيلتشدار أوغلو لم يدرك أنه بالتصعيد الذي لجأ إليه قد فتح" أبواب جهنم" عليه من قبل خصم من العيار الثقيل طالما أحرجه أمام الرأي العام، والحديث هنا عن الرئيس أردوغان الذي كان قبل أشهر التقط خطأ فادحا عند حديثه بشكل خاطئ عن مادة في التعديلات الدستورية ليقول في خطاب جماهيري: "لو أعطينا كليتشدار أوغلو خمسة خراف أو خمسة من الماعز لأضاعها وعاد إلينا".
لم يتوقف أردوغان عند هذا المستوى، بل وصل للتلميح إلى دور وموقف زعيم المعارضة من المحاولة الانقلابية، عندما تساءل الأسبوع الماضي عن مكانه ليلة الخامس عشر من تموز بالقول: "كان هناك عشرات الآلاف في المطار الذي ذهبت إليه، ولكن لماذا هربت أنت؟ هذه الأمور تحتاج إلى شجاعة، ولا يمكن أن يقدم عليها الجبناء.. يا كليتشدار أوغلو، لا تزال تتحدث دون خجل أو ملل، لكنك أتيت بشريط فاضح وستذهب بالطريقة نفسها، لن تبقى أكثر من ذلك".
وهنا تحديدا وجه أردوغان ضربة قاسية لخصمه كليتشدار أوغلو في إشارة إلى حادثة الإطاحة بسلفه نيز بايكال الذي استقال من منصبه بعد تسريب تسجيل مصور يظهره وهو يقيم علاقة جنسية مع إحدى النائبات في البرلمان.
وبالفعل جاء الرد سريعا ولكن عبر وسائل الإعلام التي بثت قناة A-HABER" الخاصة تسجيلا مصورا يظهر هبوطه في مطار أتاتورك خلال محاولة الانقلاب وخروجه من المطار بعد أن أفسحت دبابات الانقلابيين الطريق لموكبه.
تصعيد طبيعي ولكن
عن هذا التصعيد في الدعاية ومداه يرى الباحث في مركز سيتا للدراسات بأنقرة محمود الرنتيسي، أن "هذا التصعيد يجري بشكل متبادل وهو طبيعي قبل عملية الاستفتاء في ظل محاولة كل طرف الانتقاص من رؤية الطرف الآخر"، مشيرا إلى أن كليتشدار أوغلو هو من بدأه منذ بدء التصويت في البرلمان على التعديلات الدستورية.
ويرى الرنتيسي في حديث لـ"عربي21" أن المعارضة التركية تعتمد في دعايتها على فكرة "أن تركيا تتجه لنظام الرجل الواحد الذي سيقرر كل شيء وسيتجاهل دور البرلمان وسيتدخل في القرارات العسكرية وبذلك يعود التداخل بين العسكر والسياسة".
الصحفي التركي صالح كمال يرى بدوره أن ثمة تجاوزات تميزت بها هذه الجولة من الاستحقاقات الانتخابية، حيث "من المفروض أن لدى الساسة محرمات أو على الأقل مبادئ أخلاقية في الحياة السياسية، ولكن بعض السياسيين هذه المرة يصارعون في الساحة دون أي قاعدة".
ويرى كمال في حديث لـ"عربي21" أن "تصاعد حدة التصريحات في ظل سباق الاستفتاء يؤدي إلى انخفاض الأصوات لمن يرفع صوته"، مشيرا إلى حادثة التشكيك بحقيقة المحاولة الانقلابية على لسان كليتشدار الذي يبدو أنه "استخدم آخر رصاصه لديه، ولكن الرصاص لم يصل لهدفه بسبب عدم وجود أي دليل أو تفاصيل".
ويتابع كمال: "هذا الأمر انعكس لصالح مؤيدي التعديلات الدستورية، وأثر في المقابل سلبا على حظوظ المعارضين وبالتالي فشل كتلة "لا" حسب المعايير الأخلاقية للسياسة".
من جانبه يعلّق الباحث الرنتيسي على التسجيل المصور لزعيم المعارضة ليلة المحاولة الانقلابية، ويرى أن "تأخير الكشف عن هذه المعلومة -التي لا تعتبر دليلا على مشاركة الرجل أو تنسيقه مع الانقلابيين- يبدو أنها تأتي من أجل استخدامها قبل الاستفتاء الذي تشير فيه الاستطلاعات نحو نتيجة (نعم) لكنها ليست مطمئنة تماما"، مضيفا أنه "في هذا السياق فإن استخدام زلات كليتشدار أوغلو تؤثر سلبا على صورته أمام الشعب التركي وبالتالي تقطع الطريق على طروحاته المتعلقة بالاستفتاء".
التأثير على الشارع
وعن مدى انعكاس حالة الاستقطاب الإعلامي والسياسي في الحملات الدعائية على الشارع التركي يرى الباحث الرنتيسي أنه "حسب التجارب السابقة في تركيا فإن الأمور تهدأ بعد انتهاء عملية الاقتراع ويسلم الطرف الخاسر بشرعية المنتصر".
الاستنتاج ذاته يشترك معه فيه الصحفي صالح كمال، وتحديدا في ردة الفعل الانتخابية، حيث يرى أن الشارع التركي لن يتأثر من هذه التصريحات فـ"حدود كتلة "نعم" و "لا" مرسومة بشكل مضبوط، ولكن يوجد ناخبون مترددون وهي نسبة بسيطة لكنها حيوية وأعتقد أنهم سيشكلون مفتاحا لتفسير نتائج الاستفتاء".
جدير بالذكر أن نحو 55 مليون تركي سيصوتون على مجموعة من 18 تعديلا مقترحا على الدستور قدمها حزب العدالة والتنمية الحاكم، وتشمل إضافة إلى التحول للنظام الرئاسي، إلغاء منصب رئيس الوزراء، ورفع عدد نواب البرلمان التركي من 550 إلى 600 نائب، وخفض سن الترشح لخوض الانتخابات العامة من 25 إلى 18 عاما.
ومن أجل إقرار هذه التعديلات الدستورية ينبغي أن يكون عدد المصوتين في الاستفتاء الشعبي بـ(نعم) أكثر من 50% من الأصوات (50+1).