في خضمّ الحملة التي تقودها وترعاها الولايات المتحدة الأمريكية لمحاربة "الإرهاب"، ليس على الصّعيد العسكريّ فحسب، وإنّما أيضا على الصّعيدين الثّقافي والتربويّ، حيث أبرقت أمريكا إلى الدول العربية والإسلامية بضرورة مراجعة المنظومة التربوية والخطاب المسجدي، وهو ما يجري العمل عليه بكلّ همّة ونشاط في دول المسلمين من المحيط إلى الخليج؛ في خضمّ هذه الحملة، يبدو أنّ الفنّ على اختلاف مجالاته، يراد له أن يؤدي دورا مهمّا في خدمة الحملة الأمريكية، ولا شكّ في أنّ المتابع لما تبثّه جلّ القنوات من برامج، يلحظ جنوحا واضحا في الأوساط الفنية لتناول القضايا الدينيّة في الأعمال الدرامية وفي حصص التّسلية والضّحك، بصورة تهوّن من مكانة الدّين وأهمية الالتزام بشرائعه وشعائره في النّفوس، ليس بانتقاد الدّين مباشرة، وإنّما بانتقاد المتديّنين "المتشدّدين" على اعتبار أنّ كلّ متديّن هو بالضّرورة متشدّد ومتطرّف في الأعراف الفنية الجديدة، والتديّن يقود بالضّرورة إلى التطرّف والإرهاب!..
مشاهد أقلّ ما يقال عنها إنّها "سوقية" لا تحمل أيّ قيمة حضارية، يقوم فيها بعض المتطلّعين إلى الأضواء الباحثين عن الشّهرة بالسخرية والاستهزاء من بعض سلوكيات الملتزمين، وكثيرا ما تكون السخرية من أمور هي من شعائر الدّين، كالحجاب أو اللّحية، أو من أحكامه الواضحة، كتحريم التبرّج وسماع الغناء الهابط، وتحريم القزع ولبس الألبسة الضيّقة أو المزرية.. أحد شبابنا، ممّن غُرّر بهم وأريد لهم أن يفهموا أنّ الفنّ لا يعترف بالقيود، وقف على خشبة المسرح في أحد البرامج التي أطلقت لاكتشاف مواهب الشّباب في الإضحاك، فمثّل مشهدا أخذه من مقطع "فيديو" متداول على اليوتيوب، لتمثيلية ساخرة أعدّها بعض شباب الخليج، ويظهر فيها شابّ يمثّل دور سائق سيارة أجرة، ركب معه آخر يمثّل دور شابّ "ملتزم"، وما إن استقرّ في السيارة ورأى السّائق يدخّن، حتى طلب منه أن يتوقّف عن التّدخين، فلمّا سأله السّائق عن السّبب، قال الشابّ الذي يمثّل دور "الملتزم" الذي كشف عن ضحالته الفكرية وجهله المطبق بدينه، قال إنّ التّدخين لم يكن على عهد النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم!!! وهنا ركن السّائق سيارته، وطلب من "الملتزم" أن ينزل ويركب النّاقة، لأنّ السيارة لم تكن موجودة على عهد النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم!!!.. مع أنّه لا أحد يقول إنّ التّدخين محرّم لأنّه –فقط- لم يكن على عهد النبيّ عليه الصّلاة والسّلام، وإنّما لأنّه من الخبائث التي تؤدّي إلى إهلاك البدن وإهدار المال. كما أنّه لا أحد يقول إنّ كلّ ما لم يكن موجودا على عهد النبيّ –عليه السّلام- هو من المحرّمات أو من البدع.. وواضح أنّ الغرض من مثل هذه التّمثيليات هو إضحاك المشاهدين واتّهام المتديّنين بالجهل والتخلّف، وليس معالجة المشاكل الأخلاقية التي يتخبّط فيها المجتمع.. وفي هذه التّمثيليّة مثلا، ألم يكن حريا بالممثليْن أن يعالجا ظاهرة استهتار السّائقين بزبائنهم إلى درجة أنّ بعضهم يدخّنون داخل سياراتهم ويضعون أغاني ساقطة يكسف الحياء خجلا من كلماتها وأصواتها، ولا يرعون حرمة لامرأة ولا مكانة لشيخ أو رجل فاضل.
إنّنا أمام فنّ هابط يدعو ليس فقط إلى التفلّت من شرائع الدّين والاستهتار بشعائره والاستهانة بآدابه وأخلاقه، وإنّما أيضا إلى جعل كلّ هذا مادّة للسّخرية والضّحك، تحت ذريعة الحرب على التشدّد والتطرّف، وليس يخفى أنّ دائرة التشدّد والتطرّف هي في اتّساع مطّرد، تحت الرعاية السامية لأمريكا ومراكز أبحاثها التي كانت ولا تزال عاكفة على إصدار نسخة جديدة من "الإسلام الأمريكيّ" تتولّى الزّمر العلمانيّة التّرويج لها مجانا في الإعلام والفنّ والأدب، وفي البرامج الدراسية، وحتى في الخطابات المسجديّة إن أمكنها ذلك.
على المسؤولين عن الثّقافة والإعلام في دول المسلمين أن يكونوا على يقين من أنّ المضيّ قدما في هذا النّهج سيزيد أسهم التشدّد والتطرّف، حينما يحسّ الشباب الملتزمون والشّباب الذين يملكون عاطفة دينيّة بأنّ ثوابت دينهم أصبحت حقلا للسخرية والتندّر، ويرون الجهات النّافذة تتودّد إلى أمريكا بممارسات تسيء إلى الدّين وأهله.
إنّنا في أيام وأعوام أحوج ما نكون إلى فنّ يرقى بهمومنا وطموحاتنا، ويدعونا إلى التحلّي بمكارم الأخلاق لمواجهة الأزمات المتفاقمة في واقعنا، بدءا بالأزمة الأخلاقية ومرورا بالأزمة الاجتماعية وليس انتهاء بالأزمة الاقتصادية، التي يريد بعض من يظنّون أنّهم أوتوا من الحنكة ما لم يؤتَه أحد من العالمين التّغطية عليها، بتحريك خلافات وصراعات ونقاشات لن تغطّي على الأزمات وإنّما ستزيد الطّين بلّة.
على إخواننا الشّباب المتطلّعين إلى إيجاد موطئ قدم لهم في عالم الفنّ، أن يعلموا أنّ دينهم ينبغي أن يكون أعزّ لديهم من أن يكون محلا للسخرية ومضمارا للتنافس على الشّهرة.. ربّما تحبط أعمال الواحد منهم بعمل يظنّه يسيرا وهو عند الله عظيم.. لقد أنزل الله آيات تتلى إلى يوم الدّين في حقّ أناس لم يزيدوا على أن استهزؤوا ببعض القرّاء، وقالوا: "والله ما نرى قرّاءنا هؤلاء إلا أرغب بطونا وأجبن عند اللقاء"، فأنزل الله قوله: ((وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُون)) (التّوبة، 65).. لا ينبغي لإخواننا الشّباب أن يصغوا لأولئك المتجرّئين الذين يسوّغون لهم الاستهزاء والسّخرية بالدّين بذريعة أنّ هناك فرقا بين الدّين و "المتديّنين".. نعم، هناك فرق بين دين الله وبين من يعملون به من البشر، لكنّ هذه الحقيقة يجري تغييبها –سهوا أو عمدا- في هذه الأعمال، كما أنّ العبرة بالمآلات وبما يفهمه المتلقّي، الذي ترسّخت لديه هذه التّمثيليات أنّ الالتزام بشرائع الدّين والاهتمام بشعائره هو خيار لطائفة من النّاس يسّمون "إخوة" و"متشدّدين"، يتميّزون بالجهل والتخلّف والفظاظة والغلظة، ويعادون العلم ويكرهون المخترعات الحديثة!!! والتديّن والالتزام يقودان بالضّرورة إلى هذه الحال، وكلّ متديّن هو بالضّرورة جاهل ومتشدّد ومتطرّف.. والبديل عن هذا يكمن في التفلّت من الدّين والتنكّر لأحكامه وآدابه!!!
الشروق الجزائرية