حدث كبير وغير مسبوق عصف بمدينة البيضاء الواقعة نحو 200 كم شرق مدينة
بنغازي، ومدن مجاورة، ولكن بدرجة أقل، فيما تحار العقول في تشخيصه، بل وتنحرف في تفسيره انحرافات خطيرة.
قرابة 30 محاولة
انتحار خلال مدة لم تتجاوز شهرين نصفهم تم تداركهم والبقية حل بهم قضاء الله وقضوا نحبهم، معظهم من الشباب وبعضهم مراهقون، لكن تناول القضية ظل دون المستوى بل ارتفع صوت نشاز في الحكم على ما يجري بشكل قد يعقِّد جهود احتوائها.
البداية في تفسير ما جرى كان بالزج بلعبة "
تشارلي" المكسيكية في الظاهرة، وضجت صفحات "فيسبوك" الليبية بالحديث عن تشارلي وعن الروح الشريرة التي تتلبس بمن يلعبونها من الأطفال والشباب، وكيف أنها هي من تتحكم في مصيرهم، وتنهي حياتهم على الشكل المأساوي الذي تابعناه.
استمعت وقرأت للبعض يتحدث عن أسباب تتعلق بانحرافات أخلاقية بين الذكور والإناث من الشباب عبر محادثات الوسائط الاجتماعية باستخدام الصوت والصورة، وتم استخدامها لابتزازهم، فدفعهم ذلك إلى الانتحار.
والبعض ذهب للقول بتورط الجريمة المنظمة خارج البلاد في ذلك، من خلال اصطياد شباب وشابات عبر شبكة الانترنت وإغوائهم، وتوثيق ذلك ثم إجبارهم على دفع مبالغ مالية، في سلسلة ابتزاز لم تتوقف، دفعتهم للمجهول، فكان الخيار الوحيد هو الانتحار.
آخرون تحدثوا عن مخطط يقوده مشعوذون أطلقوا سحرهم، ووظفوا الجن للسيطرة على الضحايا، ودفعهم دون وعي منهم إلى الانتحار.
قرأت لأحدهم كلاما عن مؤامرة دبرتها أجهزة مخابراتية لدولة عدوة، للإيقاع بالشباب الفتي، وخلق حالة فوضى مظهرها سلسة طويلة من الانتحار، بعضها مبرمج والبقة تقع كتداعي يجد فيه كثير من الشباب الواقعين تحت ضغوط اجتماعية واقتصادية ملاذا للهروب من واقعهم المرير.
صنف آخر اعتبر أن ما وقع ويقع عقوبة من الله عز وجل للمدينة، التي شهدت عمليات خطف وتعذيب وقتل خارج القانون لبعض النشطاء والمتدينين، وملاحقة العشرات منهم لأسباب سياسية.
إذا الأصوات العفوية التي يغلب على تفسيرها تكهنات هي الأعلى، ويغيب في ظل انتشارها وتداولها بين الناس صوت العقل والعلم والتتبع والتقصي البحثي الدقيق، الذي من المفترض أن يتم بمبادرة من جهات الاختصاص الرسمية أو بتكليف مراكز بحث متخصصة.
ووقعت جهات رسمية فيما وقع فيه كثير من العوام في الربط بين الظاهرة الخطيرة وبين الأسباب سابقة الذكر، فقد تم تعميم منشورات رسمية تحذر من تشارلي وخطرها في ربط جازم بينها وبين حالات الانتحار.
ووصلت رسائل عبر شبكات الهواتف المحمولة تحذر من السحر وآثاره الخطيرة، دون أن تتحمل الجهات الحكومية المسؤولية بالتقصي والبحث للتصدي للظاهرة، ثم طمأنة الرأي العام من خلال تفسير منطقي لما وقع لتدفع بيهم في الاتجاه الصحيح للتعامل معها.
من المعلوم أن التكهنات -أكثرها هدامة- إنما تظهر وتنتشر ويصدقها الأغلبية في غياب الحقائق والتفسير العلمي للظواهر.
وتُرِك الناس للمجهول، فكثر الكلام الذي لا معنى له، وأصبحت الظاهرة كابوسا لأهل المدينة والمدن المجاورة بل لعموم الليبيين خوفا من العدوى.
أكرر بكل أسى أن الجهات الرسمية بعضها آثر الصمت، وبعضها اجتهد، ولكن في إطار محدود، لكن بعضها الآخر وقع في مصيدة التوجيه السطحي بل العبثي الذي سبق الحديث عنه، بدل أن تتولى الملف كقضية حساسة، وتوليها الاهتمام الذي تستحق، وتكون هي من يوجه الرأي العام التوجيه الصحيح.
التعامل مع ما وقع بشكل علمي ظل في إطار محدود كشفت عنه بعض التقارير الصادرة من جهات تابعة لوزارة الصحة، وكان من المفترض أن تتشكل لجنة خاصة تتابع من أعلى مستويات السلطة التنفيذية تضم جهات عدة كالصحة والشؤون الاجتماعية للبحث والتقصي الميداني، من خلال مقابلات مباشرة مع من أقدموا على الانتحار ونجوا ومع ذوي الضحايا ومحيطهم الاجتماعي من أصدقاء وغيرهم للوقوف على الأسباب الحقيقية خلفها، ثم تبني استراتيجية أو خطة أو برنامج وقائي لمنع استمرارها وتفشيها في المدينة، أو في مدن أخرى.