لم يرد شيء من مشتقات الفرح محمودا في كتاب الله إلا في موضعين؛ أحسب أنَّ العلاقة بينهما وثيقة ومتينة، ولا يعني هذا بالطبع أنَّ الفرح في كل ما عدا هذين الموضعين مذموم، وإنما التخصيص بالذكر يكون له في كثير من الأحيان فوائد غير القصر والحصر، الموضع الأول: في سورة الروم: (ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله) والموضع الثاني: في سورة يونس: (يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين؛ قل فبفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون)، فالفرح العظيم إنما يكون بنصر الله أو بفضل الله المتمثل في تمام نعمة الإسلام والهدى والبينات.
فإذا تأملت موضع
العيدين الذين شُرِعا في الإسلام أيقنت أنَّ الحكمة العليا فيهما هي إظهار الفرح بفضل الله المتمثل في إتمام نعمة الإسلام وما يتشعب عنها من نعم وآلاء، فعيد الفطر يعقب صيام رمضان، وعيد الأضحى يعقب فرائض الحج الكبرى، ويحيي نعمة الإسلام الذي وضع لبناته الأولى إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وفي العيدين تكبر مع المسلمين: (الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد) وهذا التكبير هو بمثابة الإعلان عن الفرح والشكر والامتنان.
وكما شرع التكبير تعبيرا عن الفرح بتمام النعمة في العيدين شرع تعبيرا عن الفرح بنصر الله تعالى لعباده المؤمنين، هكذا درج المسلمون من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، في إجماع عمليّ أكيد.
وهذا الربط يظهر حكمة للعيد ترتبط بقضايا الأمة وتحدياتها، فالأمّة الإسلامية لا تنفصل فيها الشعائر التعبدية عن الحركة العملية، ولا المشاعر الإيمانية عن القضايا الحياتية، ولاسيما ما كان منها وثيق الصلة بعقيدتهم ودينهم؛ لذلك فهي تكبر يوم العيد فرحا بفضل الله وهي تتطلع إلى اليوم الذي تكبر فيه فرحا بنصر الله، وتعيش فرحة العيد وهي تحمل هموم الأمة، وتتسع فيها القلوب للمشاعر التي تبدو مختلفة وهي في الحقيقة مؤتلفة، كمشاعر الغبطة والفرح بفضل الله مع مشاعر الألم لمصاب المسلمين، وتتحد في أفئدتهم الآلام والآمال بشكل إيجابيِّ عجيب.
ولا ريب أنَّ العيد بما يحويه من شعائر وشرائع يرسخ معنى الوحدة، وهي – وإن لم تكن متحققة في إطارها السياسيّ فهي متحققة بدرجة كبيرة في إطارها الاجتماعيِّ الأخلاقيِّ، فها هم المسلمون يكبرون تكبيرا واحدا في يوم واحد، وها هم يتصافحون ويتغافرون ويتزاورون، ويعبرون بهذا كله عن وحدتهم التي لم تتفرق بتفرق المشاريع السياسية المختلفة، ويحدوهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بتعاليمه وتشريعاته الراقية التي ترسخ الأخوة الإيمانية في هذا اليوم.
إنَّ المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها أخوة تربطهم جميعا رابطة الإيمان والتوحيد، وتربطهم شعائر وحدت قلوبهم ومشاعرهم وضمائرهم، فيجب أن يبقوا هكذا، وألا تفرقهم الأنظمة التي تختلف وتتفرق وتجبر المسلمين أن يتطاوعوا مع أهوائها في هذا التفرق، فلنأخذ من عيدنا هذا منطلقا عظيما لتحقيق الوحدة المنشودة، وهو أنَّ نأتمر بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال: (لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض) (المسلم أخو المسلم) ولا نأتمر بأوامر تخالف ما جاءنا عن رسولنا تهدف إلى التفريق بين المؤمنين.
هذه الأمَّة الواحدة المؤتلفة يجمعها أمل واحد وغايات وأهداف واحدة، فهم يكبرون يوم العيد وعيونهم على المستقبل الذي ينتظرهم، ويحدوهم الأمل الذي يتجدد مع تكبير العيد إلى السعي في ظل رؤية واضحة ومشروع واضح لنيل وعد الله بالنصر والتكبير؛ ليكبروا فرحا بنصر الله كما كبروا فرحا بنعمة الإسلام.
آن للمسلمين أن يتخذوا من العيد منطلقا للتجديد، وأن يستلهموا من روح العيد الأمل والبشرى بغد مشرق وثَّاب، وأن يستمدوا من تكبير العيد وقودا للثورة المرتقبة، وأن يقولوا بأدائهم العبقريّ للعيد كلمتهم في وجه كل ظالم وباغ: إننا المسلمون لا تفرقنا أهواء ولا نزوات، ونعمل بقول الله تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا).