من مقام الاستخفاف في دولة العسكر والمعسكر وفي خطاب المجلس العسكري في الشهور الثلاثة الأولى بعد قيام ثورة يناير، ستجد المستجدين على المجال العام، يهرعون لتشكيل الأذرع الإعلامية (ولسان حالهم قد قال: رجالتنا يجب أن تتكلم، من شتمنا نشتمه). لتتراوح إستراتيجيتهم الخطابية بين ثلاثة أمور؛ فعل المصادرة، وفعل الرقابة، وفعل العسكرة للمجال العام والحياة المدنية. بمعنى: تحويل المجال العام إلى المعسكر وطريقته، في أنماط سلسلة الأَوامر والقيادة العسكرية (نظام المعسكر في الإذعان والطاعة)، الانتقال من حالة الميدان إلى حالة المعسكر، نقل ثقافة المعسكر وتشويه الميدان، محاصرة الميدان بالعسكر، الميادين مناطق محظورة، الأحكام العرفية وأَحكام المعسكر، تحويل المنشآت المدنية إلى ثكنات عسكرية. يُصوَّر العسكري في هذا الخطاب وكأنّه المهدي المنتظر والمنقذ والمخلِّص. مع الإِلحاح على مقولة أَنَّ المدنيين قد فشلوا، لتصير المطالبة بوجود وحضور العسكر وحضوره من منطق الأمور. مضى هذا الخطاب في محاولة نزع أيّ ممكنات لحياة سياسية، السياسة غطاء في عرفهم في المعنى المراوغ. وقتلت أيّ عملية انتقال من المعسكر إلى السياسة وانتقال عكسيّ من السياسة إلى المعسكر. فسادت حالة من عسكرة السياسة وأساليبها المنمطة (القائمة الانتخابية الموحدة)، ودفع المعسكر الانتخابي العسكر السابقين إلى البرلمان؛ معركة العسكريين والشرطة والمخابرات العامة والمخابرات الحربية حول حصص القائمة الموحدة.
إن إدارة الاختيار في ذهنية العسكر (قفوا طابور، طابور الخدمة) كل ذلك كان تعبير من لا وعي المؤسسة العسكرية والمسكوت عنه فيها في العقل وفي الخطاب التحول من المعسكر إلى الحياة المدنية ميدان وميدان، احتقار المدنيين الأحزاب والشيع، "بيتخانقوا"، "مش حنقبل الرأي والرأي الآخر". خيال المعسكر وخطاب المعسكر كعملية مركبة لعسكرة السياسة وليس تسيس العسكر، سيطرة العسكر وموت السياسة، مصادرة المجال العام (تنميط الصوت) توحيد الفعل في مجالات السياسة، المدني والخدمة العسكرية واختبارات التصرف حسب مقتضيات العسكر والمعسكر.
يقارب ذلك الخطاب خطابات تقليدية اعتاد هؤلاء أن يطلقوها لمصادرة أي تنوع أو اختلاف، حول أننا "نحن جميعًا جيش"، "نحن في حالة حرب، في حالة دفاع عن الوجود"، هو خطاب تعبوي هادف إلى عسكرة الحياة وربما يقود إلى ظواهر العسكرة الفاشية. "كلنا جنود" خيال الفاشية (خطاب تعبوي) يرتسم في هيئة الخطاب التعبوي ويتحول إلى الفعل والحركة، فتسمع عبارات تكاد تلامس حواف العنصرية، فتعدّ العسكري صنفًا من البشر أرقى من غيره. ويصير الجيش عنوان الجدية والإنجاز الوحيد. ويُصوّر على أنّه هيئة يمكنها أن تقوم بكل السلطات أو يحرّكها؛ إدماج الحكومة بالجيش، توهُّم الصلاحية بكل شيء، تحول جيش الشعب إلى شعب الجيش، إنها حالة تأليه العسكر والجيش، ويعد الإسناد الديني خطرًا كبيرا في صناعة الصورة وتسويقها.
ويسند كل ذلك ويدعمه مقولات تمثل أحد أهم قناعاته، "الجيش فوق السياسة"، لا تعنيه مقولات السياسة في التوازن والتعدد، ولا انتشار السلطة ولا تداولها. يملك الجيش عداءً للتصوُّر الديمقراطي كما سبق أن أشرنا، خيال المعسكر وظله في التحول الديمقراطي، ومن ثم فإنه رهنٌ لفعل الإبادة والقتل في المعسكر، لا قضاء فيها في وقت الحرب، المعسكر في حالة الحرب الدائمة أو التجهز والإعداد لها، ذهنية الحرب الدائمة وذهنية الاستبداد، إنشاء ذهنية وطريقة تفكير، ذهنية تشير إلى عقل عام، والتورط في المجال العام والانخراط في عموم الناس، العسكر بين المهنية وبين انسيابهم في المجال العام. لا يجب أن تنسحب قواعد السياسة على المعسكر، العسكر يرون أنه يجب أن تنسحب قواعد المعسكر على السياسة، ومن ثم هم الباحثون دائمًاً عن مقولات الاستقرار، لا التغير، الاستمرار، لا التغيير.
دواعي الاستبداد في تنميط إعلام الصوت الواحد في ذهنية العسكر، تدفع بظهور نفس "المانشيت" الصحافي نفسه على واجهة ثمانية صحف بحرفه. تفضيل صارم للصوت الواحد حتى في الشكل والطابور والملبس والهتاف الواحد والفعل الواحد المتَّفق عليه مسبقًاً، ممارسة السياسية تترك هوامش للتعدد. والترشيد العسكري فهي حالة تنميط رهيبة، في حالة كاشفة فاضحة خرجت تقريبًا كافة الصحف في صبيحة يوم، بعناوين رئيسيةٍ تحمل هذه العبارة بنصها وفصها (مصر تستيقظ الآن) مانشيت موحد بالأمر المباشر.
والأثر المطلوب هو حالة عامّة من عسكرة المجتمع للحياة المدنية، تقوم على قاعدة الأمر والطاعة؛ وكأنّ المجتمع قد تحوّل إلى ثكنة عسكرية كبيرة؛ وكأن المؤسسة العسكرية صارت فوق الدولة، تعبر عن مصالحها من كل طريق؛ وكأن المجتمع كله في خدمة تلك المؤسسة، فضلًا عن المؤسسات الأُخرى. إنّها حالة تغوُّل كبرى، تعبّر عن زحف العسكر على مساحات المدني والاجتماع السياسي كاملا، بل وحتى ديناميات الحياة السياسية.
صار العسكر وحكمهم مع تصدير مقولة الجيش التي لها جاذبية ومكانة ما في الذاكرة استغلها العسكر وقادتهم وجهاز شئونهم المعنوية وأجهزة أذرعهم الإعلامية كل ذلك وظف استغلالا يعزّز عناصر قوتهم من خلال التغلغل في الحياة المدنية كلّها والهيمنة على معظم مساحات الثورة والاقتصاد، فيقوّي من جانبه معادلة العلاقات المدنية - العسكرية بطريقة يؤسس فيها لذلك، من خلال بنية تحتية، تحفظ موازين القوى التي تجعل له اليد العليا ضمن العلاقات المدنية - العسكرية في مصر.
إنّ أحد الأُسس والقواعد التي تشيد صرح العلاقات المدنية - العسكرية في الحالة المصرية في تصور حكم العسكر من خلال قيادتهم هي كون الجيش بقيادته هو صاحب الحكم، على نحو مباشر أو غير مباشر (من وراء ستار) وأن مكاسبه مصونة لا تُمسّ، وأن حصانة العسكر إنما تمثّل سياجًا يتعلّق بعصمة مواقفهم وسياساتهم، وأنهم بذلك لا يطولهم الحساب ولا العقاب.
الأمر المؤكد أن السيسي الذي ينفي "لا والله ما هو حكم عسكر"، جعل من المؤسسة العسكرية في الدولة دولة فوق الدولة وهو ما يجعلها والحال هذه إلا المؤسسة العسكرية لا يمكن إلا أن تمثّل عقبةً أساسية على طريق الثورة، وعلى طريق الانتقال الديمقراطي، وعلى طريق إعادة هيكلة العلاقات المدنية - العسكرية. وهو أمر وإن عقّد المسألة، فإنّه يجعل التفكير لإعادة صوغ هذه العلاقات على أسس رصينة ومتينة، مواتيًا لاستئناف فاعليات الحياة المدنية. وكذا الحياة السياسية والحياة الديمقراطية، إنّما تمثّل عمليةً طويلة الأمد لا يمكن أن تقوم على أُسس رصينة إلا بتدبُّر شأن الانتقال العسكري. هذا التصور المشوه لدولة السيسي كشف النقاب عن دولة فوق الدولة ودولة المعسكر لا تجد في الفاشية بأسا ولا في الممارسة البوليسية إلا عملا لضبط الأمن ومنع فوضى المدنيين واستخفافهم بالنظام الحديدي.
مقولات ومفردات بعضها من بعض تتحرك من جوف العسكرة والسطوة للعسكر، تمثل نمطا خطيرا في تصور الحياة من قبل العسكر، احتقار لتنوعات الحياة المدنية وسعتها في الخيارات والنشاط والحركة، الى ضيق حياة العسكرة وتنميطاتها، فلا هم بمنظومة تفكيرهم يصلحون لتسيير الحياة المدنية، ولا الحياة المدنية يمكن أن تقبل أو تستجيب لفرضهم حال التعسكر والعسكرة. فماذا إذن عن دولة الناس التي يريدونها؟، هذا ما سنختم به هذه السلسلة من المقالات، أين دولة العسكر من دولة الناس؟!.