عندما أفرجت الولايات المتحدة الأمريكية عن الدفعة الأخيرة من وثائق ابن لادن، التي حصلت عليها بعد قتل بن لادن في 2 أيار/ مايو 2011، عبر عملية خاصة نفذها فريق من أفراد الجيش (وحدة سيلز) والمخابرات الأمريكية (سي أي إيه) داخل منزله في منطقة "أبوت آباد" في باكستان، لم تكن تهدف إلى تعزيز الشفافية وتوفير فهم أفضل لتنظيم القاعدة والحركات الجهادية، وإنما تقديم قراءة منتقاة للوثائق؛ تعمل على تفتيت ابن لادن وموضعته على مقاس سرير الاستراتيجية "الإمبرطورية الإمبريالية الأمريكية"، وتوظيف القراءة في سياق "حرب الإرهاب".
استثمرت الدفعة الأولى في سياق نجاح سياسة أوباما، والتبشير بنهاية تنظيم القاعدة، واستخدمت الدفعة الثانية والثالثة والرابعة لتعزيز الخلافات بين القاعدة وتنظيم الدولة. وتأتي الدفعة الأخيرة لاستثمارها بمواجهة إيران
فعلى مدى سنوات، دارت رحى معركة حول مسألة رفع السرية عن هذه الوثائق لجعلها متاحة للجمهور. وبهذا لا تعدو تصريحات مدير الجهاز الاستخباري، مايك بومبيو، بأنه أمر بالكشف عن هذه الوثائق رغبة منه بالشفافية ولكي يعزز فهم الجمهور للقاعدة وقائدها السابق، عن كونها تعمية تفتقر إلى قول الحقيقة. فقد استثمرت الدفعة الأولى في سياق تحسين صورة أمريكا ونجاح سياسة أوباما، والتبشير بنهاية تنظيم القاعدة، واستخدمت الدفعة الثانية والثالثة والرابعة من الوثائق لتعزيز الخلافات بين القاعدة وتنظيم "الدولة الإسلامية". وتأتي الدفعة الأخيرة لاستثمارها في مواجهة إيران وربطها بالقاعدة.
لا شك بأن "وثائق أبوت آباد" تحتوي على قدر كبير وهام من المعلومات التي تكشف عن طبيعة تنظيم "القاعدة" وعلاقاته مع الحركات الجهادية، وتطوره الإيديولوجي وبنائه الهيكلي التنظيمي وآليات عمله الدعائي الإعلامي ونشاطه العملياتي العسكري، لكن تلك المسائل واضحة تماما للخبراء والباحثين، ونشر الوثائق يعزز ما هو معروف ولا يضيف جديدا، رغم أهمية الوثائق وضخامتها.
فبحسب الولايات المتحد،ة صودرت من مخبأ بن لادن 10 محركات أقراص صلبة، وما يقرب من 100 محرك أقراص صغيرة، و12 هاتفا محمولا، بالإضافة إلى محموعة من أقراص الفيديو الرقمية التي تحتوي على ملفات صوتية ومصورة، وكميات من المواد المكتوبة بخط اليد، فضلا عن مجموعة من الصحف والمجلات. وقد تضمنت الدفعة الأخيرة، التي نشرتها وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية في 1 تشرين الثاني/ نوفمبر 2017، نحو 470 ألف ملف. وتشمل الملفات الجديدة مذكرات بن لادن الشخصية، ووثائق وتسجيلات صوتية وتسجيلات فيديو.
أوكلت مهمة القراءة في كل دفعة إلى أحد المراكز البحثية المرتبطة بالإدارة الأمريكية
تكشف القراءة الانتقائية للوثائق عملية تفتيت ابن لادن وتوظيفها استراتيجيا وسياسيا، حيث أوكلت مهمة القراءة في كل دفعة إلى أحد المراكز البحثية المرتبطة بالإدارة الأمريكية. فعندما نشرت الإدارة الأمريكية الدفعة الأولى من الوثائق، عقب مرور عام على اغتيال أسامة بن لادن (أي في 2 أيار/ مايو 2012)، أوكلت مهمة القراءة لمعهد مكافحة الإرهاب في ويست بوينت، حيث تم انتقاء 17 وثيقة بعناية فائقة، وذلك قبل ستة أشهر من الانتخابات الرئاسية لعام 2012، حيث عمدت إدارة أوباما آنذاك إلى بناء حملة منسقة لإقناع الشعب الأمريكي بأن الحرب الممتدة مع تنظيم القاعدة تتجه نحو نهاية سعيدة، بتفكيكها وهزيمة إيديولوجيتها والقضاء على أبنيتها الهيكلية. ففي 1 أيار/ مايو 2012، بشر أوباما ناخبيه بلهجة واثقة بالقول: "إن الهدف الذي وضعته لهزيمة القاعدة وحرمانها من فرصة إعادة بناء نفسها؛ بات الآن في متناول أيدينا".
كان مضمون الدفعة الأولى من الوثائق يرسم صورة بائسة لتنظيم القاعدة، وصورة يائسة لزعيمه أسامة بن لادن؛ الذي بدا - حسب القراءة المفتتة - محبطا وحزينا بسبب نجاح سياسات "حرب الإرهاب" الأمريكية، وبروز ثورات الربيع العربي السلمية التي قضت على نهج التنظيم العنيف وإيديولوجيته المتطرفة، حيث ركزت الوثائق المنشورة على محاولة ابن لادن التماهي والتكيّف مع عصر الثورة، والتخلي عن استراتيجية مواجهة "العدو البعيد"، وتوصل فريق المحللين في مركز مكافحة الإرهاب في أكاديمية ويست بوينت العسكرية إلى نتيجة تتطابق مع الاستراتيجية الأمريكية ومفادها: "إن ابن لادن كان في عزلة وعاجزا نسبيا، ولم يكن في آخر أيامه سوى رجل حزين يجلس وحيدا على قمة الشبكة الإرهابية المتداعية".
عقب بروز تنظيم "الدولة الإسلامية" وتمدده، وانتشاره أفرجت الولايات المتحدة عن دفعة ثانية من وثائق ابن لادن، في 20 أيار/ مايو 2015، حيث نشرت وكالة الاستخبارات الأمريكية 103 وثائق جديدة منتقاة بعناية فائقة، في ظرف مختلف تماما، بعد سيطرة تنظيم "الدولة الإسلامية" على مساحات واسعة في العراق وسوريا، وتمدد الجهادية العالمية في دول الثورات العربية بعد نضوج قوى الثورة المضادة، حيث تغيرت صورة أسامة بن لادن في الوثائق الجديدة عن صورته الحزينة البائسة المهزومة في الوثائق السابقة، فهو يظهر كزعيم محبوب وقائد فذ لتنظيم القاعدة، يقوم بإدارة منظمة بيروقراطية مركزية متماسكة، ويشرف مباشرة على إدارة عملياتها، بل إنه يبدو كمنظّر استراتيجي للتنظيم خلال السنوات الأخيرة، كما إنه يبدو شخصية "رومانسية رقيقة" في التعامل مع أفراد عائلته.
تحتوي الوثائق على قدر كبير وهام من المعلومات عن طبيعة التنظيم وعلاقاته مع الحركات الجهادية، وتطوره الإيديولوجي وبنائه التنظيمي وآليات عمله الإعلامي والعسكري
القراءة للدفعة الثانية من وثائق ابن لادن كانت تهدف إلى تعزيز الخلافات بين الجهاديين، وكانت تعكس القلق الأمريكي من النهج الجديد للجهادية العالمية وممثلها تنظيم "الدولة الإسلامية". فالهدف الأساس من الوثائق المسربة الجديدة هو توظيف كاريزما ابن لادن في التصدي لإيديولوجيا "الدولة الإسلامية". فقد قدمت الوثائق أمثلة عديدة عن النهج السياسي البراغماتي لابن لادن وتنظيم القاعدة، عبر تشجيع حركة طالبان باكستان على التفاوض مع حكومة باكستان لإحلال السلام، والتفاوض مع دول عديدة حول الرهائن، والتأكيد على فروع القاعدة بعدم استهداف قوات الجيش والأمن، والتركيز على الولايات المتحدة، ورفض السيطرة المكانية وتأسيس دولة إسلامية. ففي إحدى الرسائل لفرع القاعدة في اليمن يقول ابن لادن: "علينا وقف العمليات ضد الجيش والشرطة في كل المناطق، وخصوصا في اليمن"، وهو يؤكد على أن الأولوية يجب أن تكون ضرب أمريكا لإجبارها على التخلي "عن أنظمة الشرق الأوسط "، وترك المسلمين وشأنهم، كم يشدد على أن "الانقسام في الحركة الجهادية قد يؤدي إلى هزيمتها".
حافظت الولايات المتحدة على تعزيز الخلافات بين القاعدة وتنظيم "الدولة الإسلامية"، من خلال نشر وثائق منتقاة لابن لادن في الدفعة الثالثة التي نشرت في 1 آذار/ مارس 2016، وفي الدفعة الرابعة التي نشرت في 19 كانون الثاني/ يناير 2017، حيث هيمنت القراءة الانتقائية لوثائق ابن لادن في سياق استراتيجية للتصدي لجاذبية تنظيم "الدولة الإسلامية"، وإظهار بربريته ووحشيته وانحرافه عن نهج ابن لادن وتنظيم القاعدة. إذ تبرز الوثائق استياء القاعدة من نهج الفرع العراقي، منذ حقبة "أبو مصعب الزرقاوي" مرورا بأبي عمر البغدادي وأبي حمزة المهاجر، وصولا إلى أبي بكر البغدادي، وتتناسى رسائل عديدة منشورة لابن لادن يكيل فيه الثناء والمديح لتنظيم الدولة وقياداته. لكن الوثائق تنتقي مجموعة من الرسائل التي تلقاها ابن لادن وتنظيم القاعدة من بعض الشخصيات والجماعات الجهادية العراقية؛ تشتكي فيها من سلوك الفرع العراقي، كأنصار السنة وجبهة الجهاد والإصلاح، وغيرها، وتدفع بالحالة الجهادية العالمية إلى مزيد من التشرذم والانقسام والدخول في صراع دموي عنيف حول تركة بن لادن وتمثيل نهج القاعدة.
الدفعة الأخيرة من وثائق ابن لادن جاءت عقب تراجع تنظيم "الدولة الإسلامية"، والحديث عن هزيمته ونهايته، وبالتزامن مع الإعلان عن استراتيجية أمريكية تجاه إيران. وحيث أن ليس بمقدور أحد الاطلاع على كافة الوثائق لضخامة حجمها، وهي في أغلبها مكرورة، فقد أوكلت قراءتها وتحليلها إلى مؤسسة تتماهى مع استراتيجية دونالد ترامب تجاه إيران، وهي مؤسسة الدفاع عن الديموقراطيات، وهي مجموعة ضغط معروفة بمواقفها المعادية جدا لإيران، وجاءت قراءتها متطابقة مع النهج الاسترايجي للإمبراطورية الأمريكية. فقد ركزت على العلاقة المفترضة بين إيران والقاعدة، الأمر الذي دعا نيد برايس، وهو المستشار السابق للرئيس السابق باراك أوباما، إلى القول إن هذه الوثائق "لا تتضمن أمورا لا نعلمها من قبل"، وعبّر على موقع تويتر؛ عن شكوكه بأن بومبيو نشرها على الأرجح لدعم حجج الجهات الساعية إلى نزاع مع إيران. وتابع برايس بالقول: "هذه الأفعال توحي بأنه يعود إلى نهج إدارة جورج بوش: التركيز على روابط مع إرهابيين لتبرير تغيير في النظام".
تدرك مؤسسة الدفاع عن الديموقراطيات أنها لا تستطيع البرهنة على علاقة بين إيران والقاعدة؛ تتجاوز النزعة البراغماتية للطرفين
تدرك مؤسسة الدفاع عن الديموقراطيات أنها لا تستطيع البرهنة على علاقة بين إيران والقاعدة؛ تتجاوز النزعة البراغماتية للطرفين أدت إلى تحالفات موضوعية أملتها ضرورات الواقع وإكراهات السياسة، مع وجود عدو مشترك، ولذلك فقد جاءت قراءة مؤسسة الدفاع كي تخلق حالة من التشوش والبلبلة، ذلك أن وثائق ابن لادن تكشف عن علاقة إكراه واضطرار متلبسة بالشك وعدم الثقة. فهي تشير إلى أن علاقات ابن لادن بإيران مضطربة، وتذبذبت بين التقارب والتوتر، لكنها تزعم، حسب بعض الوثائق التي لا تخص ابن لادن شخصيا وإنما هي مرسلة إليه، أن طهران عرضت تدريب وإمداد "الأشقاء السعوديين" من القاعدة بالسلاح والمال، شرط أن يهاجموا المصالح الأمريكية في الخليج. لكن الوثائق تكشف أيضا عن خلافات حادة بين الإيرانيين والجهاديين، من بينها رسالة وجهها أسامة ابن لادن إلى المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية، آية الله علي خامنئي، طالبه فيها بالإفراج عن مقربين منه، وتضمنت وثائق أخرى أن تنظيم القاعدة خطف دبلوماسيا إيرانيا لمبادلته بأسرى. وتشير وثائق ابن لادن إلى أنه كان يدرس خططا لمواجهة النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط، والذي كان يعتبره "مسيئا".
وثائق ابن لادن لا تضيف شيئا جديدا للخبراء والباحثين، لكن الولايات المتحدة تعمل على فرض قراءة انتقائية تفتت ابن لادن وتستخدمه في سياق استراتيجيتها
خلاصة القول أن وثائق ابن لادن لا تضيف شيئا جديدا للخبراء والباحثين، لكن الولايات المتحدة تعمل على فرض قراءة انتقائية تفتت ابن لادن وتستخدمه في سياق استراتيجيتها الإمبراطورية الإمبريالية بالسيطرة والهيمنة، تحت ذريعة "الحرب على الإرهاب"، حيث يتلقف مخبرو المنطقة القراءة الانتقائية كحقائق مسلمة. والدفعة الأخيرة من الوثائق تقع في إطار استراتيجية مواجهة إيران وحلفائها، والحد من نفوذها وهيمنتها، كما تهدف إلى خلق حالة من التشوش والفوضى في صفوف الجهاديين، وفي ثنايا المجتمع العربي والإسلامي، وتدفع باتجاه حروب لا تنتهي في المنطقة.