وكأن الصحافة مهنة اختُرعت حديثا، ليتكلم بعض الصحفيين عنها كما لو كانت ضوابط ممارستها جرى اكتشافها للتو واللحظة!
فلم يعد جديدا أننا نرى من قبل هؤلاء من يستغل أن الصحافة مهنة غير واضحة المعالم لدى العامة، فيقدمها للناس على أنها مهنة لا تشترط فيمن يمارسها ضوابط أخلاقية أو وطنية، وهى دعاية فاسدة روج لها صحفيون مقربون من الأنظمة المستبدة، ثم قاموا بالتأكيد على أن هذه الدعاية من ثوابت الممارسة الصحفية ومن مقتضيات الواجب المهني. وعندما قام الصحفي العراقي الشجاع "منتظر الزيدي" بتصويب حذائه في وجه مجرم الحرب ومصاص الدماء "بوش الابن"، كان لافتا أن صحفيين محسوبين على المعارضة بمصر في ذلك الوقت؛ نددوا وسخروا من هذا التصرف الذي يخالف تقاليد مهنة الصحافة، وكأن الرئيس الأمريكي في البيت الأبيض يلقي الإيجاز الصحفي، وليس يقف في بلد قام باحتلاله، وأهان شعبه!
كان "إبراهيم عيسي"، ممن زاد وعاد، ولت وفت في هذا الأمر، واستدعى تقاليد مهنة الصحافة ليؤكد أن "منتظر الزيدي" خالفها، في حين أنه لا يلتزم أبدا في ممارسته للمهنة بهذه التقاليد، ولا يلزم نفسها بها، بل وحدث أن فبرك بيانا نسبه للجماعة الإسلامية، يهدد فيه باغتيال ثلاثة من رجال الأعمال المسيحيين، من بينهم "نجيب ساويرس"؛ لأنهم، بحسب ما جاء في البيان المزيف، يحمون الاقتصاد المصري من الانهيار، وهو الأمر الذي لم ينطل على حسني مبارك، فأمر بالوقوف على حقيقة هذا البيان، وبعد تقصى تبين أن فبركته تمت في مكتب المذكور!
ولأن "عيسى" وجد أن المهنة وضوابط ممارستها؛ ربما لا تشغل بال كثيرين، فقد ذهب يسفه من هذا العمل الذي أيده الرأي العام العربي، فقال إن الغرب لا يري في الاعتداء بالحذاء أنه عمل مهين، كما عندنا نحن العرب!
لم تكن الصحافة وقيمها ما يعني "إبراهيم عيسي"، ودفعه للسخرية من الصحفي العراقي، ولكن لأنه مدرك أن هذا الأداء هو ما يجعله مقربا من الدوائر الغربية، والدوائر الإقليمية التي تدور في فلكها، وهي الدوائر المانحة لجوائز حرية الصحافة التي حصل على الكثير منها، لمجرد الاستدعاء للنيابة، في حين أن صحفيين دخلوا السجن، وأغلقت صحفهم، ومنعوا من الكتابة، ولم يتلقوا من هذه المنظمات ولو برقية تأييد!
الآن، يجري الحديث عن تقاليد مهنة الصحافة غير المعروفة للناس؛ في واقعة أحد تلاميذ مدرسة العشوائية الصحفية التي أنشأها "إبراهيم عيسي"، فأنتجت الثعالب الصغيرة التي أفسدت حقول الكروم!
على ذكر تقديم مهنة الصحافة على أنها اختراع اهتدت إليه البشرية في السنوات العشر الأخيرة، في أحد كهوف الصحراء الغربية في مصر، أتذكر ما كان يفعله أحد الزملاء الصحفيين في زمن الجمع التصويري، وقبل أن أستخدام الكمبيوتر في التصفيف والإخراج الصحفي، وعندما كان يطلق عليه "الحاسب الآلي"!
عملية التصفيف بواسطة الجمع التصويري تنتج ما يسمى بالبروميد؛ الذي يقوم عامل الإخراج بضبطه بحسب رؤية المخرج الفني للموضوع أو الصفحة التي ترسم بالقلم الرصاص، وقد عرفت هذه العملية "البنط" و"الكور" عند تحديد عرض الكتابة وحجم الكلمات!
كان زميلنا هذا عندما يجري حوارا مع إحدى الشخصيات للنشر، فإنه يلقي عليه بالسؤال ويتركه يتحدث وأمامه الكاسيت، بينما هو ينشغل باقتناص بعض الكلمات، وكتابة مساحة الكور، والبنط، وما إذا كان "أسود" أم "أبيض"، وكان يرضي غروره إذا انتبه "المصدر" لذلك، فيسأله عن هذه الطلاسم وتلك اللوغاريتمات، فيجيبه بشموخ بأن هذه شفرات خاصة بهم في الصحافة. وكان وجهة نظر هذا الزميل؛ أنه حتى لا يفهم هؤلاء أن الصحافة مهنة سهلة!
وقد تذكرت الزميل وما كان يفعل قبل أكثر من ثلاثين سنة، وأنا أطالع آراء خجولة عن طبيعة مهنة الصحافة، لتمرير ما فعله مذيع بقناة تلفزيونية تبث من لندن، ضبط متلبسا بحضور مهرجان الشباب في شرم الشيخ، دون إعلان منه، أو بالكتابة على حائطه سلبا أو إيجابا عن هذا المؤتمر. وعندما انتشر الأمر، فقد أعلن أنه هناك في مهمة عمل، قبل أن يحذف ما كتب، لأن أحدا لم يراه يرسل لمحطته التلفزيونية رسالة من داخل المؤتمر. وإذ اختفى مع الهجوم عليه، فقد ظهر هناك من يترافعون عنه بالإنابة، وعن حقه في ممارسة عمله، وباعتبار أن من حق الصحفي أن يتواجد في أي مكان، وأن يحضر أي مؤتمر، وباعتبار أن هذه هى قيم مهنة الصحافة!
وهذ حديث في المطلق يتساقط كأوراق الشجر اليابسة عند أول مواجهة جادة، فالمؤتمر ليس في البيت الأبيض حتى يصبح من الطبيعي أن يمارس الصحفي عمله بحضوره، وإن كان من معارضي الرئيس الأمريكي، ولكنه في مصر، حيث لا صوت يعلو فوق صوت عبد الفتاح السيسي، ومن يحضرون هذه المهرجانات هم من العناصر المختارة بعناية، وهم من الأذرع الإعلامية للانقلاب. أما الصحفيون الأجانب أو الذين يعملون في وسائل إعلام أجنبية، فهم ابتداء يحصلون على ترخيص بمزاولة العمل من مكتب الصحافة التابع لهيئة الاستعلامات التابعة بدورها لرئاسة الجمهورية، وهم إن لم يكونوا من الأذرع فليس لهم حرية ممارسة العمل باستقلال. وهم لا يذهبون إلى مثل هذه المؤتمرات لمجرد حملهم للترخيص القانوني بمزاولة مهنة الصحافة من الهيئة، ولكن بعد أن ترشحهم جهات عملهم بأنهم مكلفون بالتغطية، وهو قطعا لم يجر مع هذا المذيع؛ لسبب بسيط، وهو أن القناة التي يعمل بها محظور عليها العمل في مصر، وعندما يرفض النظام الحاكم في المحروسة السماح لها بفتح مكتب، بل ويناصبها العداء، ويتم وضعها في قائمة دول الحصار المطلوب إغلاقها، جنبا إلى جنب مع قناة "الجزيرة"، فإن دعوة المذيع بهذه القناة تعد أمرا مثيرا للريبة، لا سيما إذا علمنا أنه لم يعلن بأي شكل عن دعوته أو حضوره، والإثم هو ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس!
وإذا كان صديقنا "جمال الجمل" قد ألقي له بطوق النجاة، بمرافعته عن حق الإعلامي في أن يحضر في أي مكان ويتابع أي فاعلية، فإنه يستدعي قيم الصحافة المجردة في غير مكانها، وهو قياس فاسد كما يقول الفقهاء.
عندما يدعو النظام إعلاميا يعمل في قناة مصنفة على أنها قناة الأعداء، فإنه لا يجوز استدعاء محددات العمل الصحفي، ولكن قيم "التوظيف الأمني"
حادث الواحات.. مزيد من الأسئلة!
لماذا أطاح السيسي برئيس الأركان؟!
عملية الواحات.. ثالوث العجز والذل والظلم