أن يموت في سجون الانقلاب العسكري، فإنه أمر يليق به، فقد آن لهذا الجسد المسافر في سبيل الله أن يستريح، وأي راحة أفضل من أن تنتهي حياته على يد من أوغلوا في دماء المصريين، فكانوا هم "الفئة الباغية"، وكان حرياً به أن يكون أحد شهدائهم!
إنه الشيخ "عبد الرحمن بن محمد لطفي"، وهو الاسم الذي كان يوقع به آراءه وخواطره التي تنشر في صحف المعارضة بمصر،؛ التي عرف طريقه إليها مبكراً. ولا أعرف تاريخ علاقتي به، لكني كنت أقرأ سطوره القليلة قبل أن أعمل بالصحافة، فلما توليت الإشراف على زاوية "بريد الأحرار" في كانون الثاني/ يناير 1990، كان زبونا دائماً علىها، قبل أن ينشر مقالاته في صفحة الرأي بالصحيفة بعد ذلك بسنوات، فلم يعد قارئاً مغموراً يسلم سطوره لتنشر في "بريد القراء"، وإنما أصبح داعية معروفاً لكل من في الصحيفة.. يسأل عن الغائب، ويتحدث مع الحاضر، ويعرفه أمن الجريدة، فلا يسأل عن هويته، أو وجهته، وكأنه من العاملين فيها!
وقد تحفظت في البداية على نشر اسمه هكذا، واللقب "بن" لا يعرفه المصريون، لكني تراجعت بعد إصراره، لا سيما وأن اسمه ينشر بهذا الشكل في صحيفة اليسار المصري "الأهالي"، وكان الشيخ "زبوناً" دائماً أيضاً على باب "بريدكو" الساخر بالجريدة؛ الذي يحرره الصحفي اليساري الكبير، وعضو مجلس نقابة الصحفيين، "فيليب جلاب"، قبل أن يصبح رئيساً لتحرير "الأهالي". ولأن "عبد الرحمن بن لطفي" كائن يألف ويؤلف، فلم يكن الخلاف الإيدولوجي أو الديني حائلاً دون إقامته علاقة متميزة مع "جلاب"، والذي كان إنساناً دمث الخلق، وهو ما أغرى الشيخ وظن معه أنه قادر على أن يقنعه الإسلام!
ذات يوم قال "بن لطفي" لمحمد عامر، رئيس تحرير جريدة "الحقيقة"، وكان درعمياً تخرج في كلية دار العلوم، أنه في طريقه لإقناع "فيليب جلاب" بالإسلام. وهتف "عامر" في وجهه ساخراً: "إن ترك مسيحيته فلن يقلع عن الشيوعية". وكتب الشيخ "عبد الرحمن بن لطفي" ذلك في رسالة، سلمها لـ"فيليب جلاب"، والذي نشرها وكتب تعليقا غاضباً عليها، ليس على الشيخ وأمنيته، ولكن غضباً وسخرية من "محمد عامر"!
لم يكن "عبد الرحمن بن لطفي" كغيره من القراء الذين يرسلون رسائلهم إلى الصحف عبر البريد، لكنه كان يأتي كل أسبوع من بلدته "ملوي" بمحافظة المنيا، إلى القاهرة، فيقوم بجولة على الصحف، وكأنه في رحلة في سبيل الله، ثم يذهب لزيارة والدته، وخالته، والدة "خالد الإسبلامبولي"، قاتل السادات، قبل وفاتها. وكان يفخر بأنه ابن خالة خالد، وأنهما من تلاميذ شيخ واحد هو "عبد الله السماوي"، المؤسس الحقيقي للجماعة الإسلامية في مصر!
عندما كان الدكتور "فرج فودة" يكتب مقالاً أسبوعياً في "الأحرار"، كان ردان على مقاله يأتيان كل أسبوع، الأول من مهندس في بورسعيد يدعي "محمد شعبان الموجي"، يرسله بالبريد، والثاني من الشيخ "عبد الرحمن بن لطفي"، الذي يأتي من ملوي بالمنيا ليسلمه بنفسه. وفي ذات مرة رد عليه "فودة" بعبارات تخرج عن اللياقة، للمرة الأولى، وهو الذي كان يحتفي بتعليقات المعلقين. ورغم الابتذال، فلم يغضب الشيخ "عبد الرحمن"، وكان يعتبر أن هبوط "فرج فودة" إلى هذا المستوى معناه عجزه عن الرد عليه، ولقوة حجته.
كان "بن لطفي" يوقع رسائله في البداية بـ"إمام مسجد النور بملوي"، قبل أن يكون التوقيع بأمين حزب العمل بنفس البلدة (ملوي). وقلت له الأحرى ألا ينشر آراءه في صحيفة حزب آخر غير حزبه، وكان يقول ضاحكاً إنه يستغل ليبراليتي أسوأ استغلال، وربما يختبرها. لكن علاقته لم تكن قاصرة عليّ، فقد كان صديقاً للجميع، لا يجد حرجاً في أن يدير حواراً مع الصحفيات والموظفات بالجريدة، وأحيانا يكلمهن في حتمية تعدد الزوجات. وكان قد نقل لنا عن الشيخ عمر عبد الرحمن؛ قوله إن الأصل في الزواج التعدد. وهي من المرات القليلة التي يلجأ إلى شيخ آخر ويتجاهل شيخه، الذي لم يأخذ بسنة التعدد ومات وهو متزوج بواحدة. وهو كان مخلصاً إخلاصاً بلا حدود للشيخ السماوي، وكان مهتما برد الاعتبار إليه بالكتابة عنه، حتى بعد وفاته، وكأنه يحارب النسيان الذي طوى اسم الشيخ. وكنت أقول له مازحاً إنه الوحيد الذي خرج به السماوي من الدنيا، ولولا علاقة المصاهرة، لخرج منها "يا إلهي كما خلقتني".
وكان يرد بجدية على مزاحي. فصحيح أنه تزوج شقيقة الشيخ، لكن دفاعه عنه ليس لأنه صهره، ولكن تقديراً لعلمه ودوره في سبيل الدعوة. وكان واضحاً أن هناك سبباً دفع الشباب الذي لم يعرف الالتزام إلا على يديه (بحسب قول السماوي لي) إلى الانصراف عنه، وقد اختاروا الشيخ عمر عبد الرحمن أميراً لهم!
ذات مرة اتصلت هاتفياً بالشيخ السماوي، فأخبرتني زوجته أن الأمن جاء فجراً واعتقله، فأبلغت المحامي منتصر الزيات بذلك، وبعد خروجه سألته إن كان الزيات قد زاره أو حضر معه التحقيقات، فأجاب: لم يأت ولم يهتم!
وفي مقابلة صحفية معه حاولت الوقوف على سبب هذا الانفضاض من حوله، وهل هذا راجع إلى شخصيته المسيطرة، فقال ضمن ما قال: "كل شاب نبتت له لحية يريد أن يكون أميراً.. وربما أمير المؤمنين"!
كان السماوي يسكن في شقة صغيرة ومتواضعة خلف قصر عابدين، ويحرص على الحديث بالعربية الفصحى، ويقاطع العامية تماماً. لذا ففي الاعتقالات المختلفة، كان رجال الأمن، وهم يعذبونه، يطلبون منه أن يتحدث بالعامية، وأن يغني الأغاني التي تكون العامية فيها واضحة، مثل "ياما القمر ع الباب"!.. وقد ربى أبناءه على ذلك، وقال لي أنه اطمئن عليهم عندما وجدهم وهم نيام يحلمون بالفصحى!
سألته مازحاً إن كانت زوجته في بداية رحلة الزواج وجدت صعوبة في فهمه.. فقال إن عربيته بسيطة، وليس فيها ما لا تفهمه!
وقد كانت عربيته بسيطة فعلا، يزيدها بساطة أنه شخصية هادئة يتحدث على مهل. لكن الأمر لم يكن هكذا دائما، فذات مرة كان معتقلاً مع الشيخ عبد الحميد كشك في زنزانة واحدة، وكان معهما بعض الشباب، ودخل السماوي ليأخذ حماماً بالسجن، وظل ينادي على الشبان أن يأتوه بالملابس الداخلية، ولها اسم بالفصحى لا أتذكره، بينما ينظرون إلى بعضهم البعض، ولا يعرفون ماذا يقصد، وقال الشيخ كشك بخفة دمه المعهودة: "تكلم عربي وإلا مت من البرد"!
وهي الواقعة التي نقلها لنا الشيخ "عبد الرحمن بن لطفي" عن شيخه "عبد الله السماوي"، والذي كان شاعراً كتب قصيدة في مدح "شكري مصطفي"، زعيم جماعة "التكفير والهجرة"، والذي كان يكفر الجميع، وكان يختلف معه السماوي، لكنه عاصره في المعتقل وأعجب بشجاعته. فقد سأله قائد السجن الحربي إن كان يراه كافراً، ظناً منه أن "شكري" سيرتج عليه، ويتراجع عن أفكاره في تكفير المجتمع في حضوره، فإذا به يصدر حكمه الحاد: "أنت كافر ورئيسك كافر، ومن لم يكفركما فهو كافر"، ولم يكن رئيسه سوى عبد الناصر!
كان "شكري مصطفي"، بعد كل "وصلة تعذيب"، يقف ويلوي رقبته ويتحدث بشموخ، حتى يثبت لهم أنهم لن ينالوا منه، ويرد عليهم بوصلته هو: أنتم كفار، ورئيسكم كافر، ومن لم يكفركما فهو كافر. وقد كان يكفر الإخوان أيضاً، مع أنهم كانوا معه في السجن، ويقول لهم: لستم صادقين عندما تهتفون "الموت في سبيل الله أسمى أمانينا". وفي كل مرة يلقي النظام القبض عليكم يجدكم مستسلمين تماما".
وذكر لي "بن لطفي" أن "السماوي" امتدح الشيخ كشك بقصيدة كاملة لم يحفظ هو منها سوى أبيات قليلة، ولم أحفظ أنا سوى شطرة بيت: "قالوا ومن أنبأك بأن ابن كشك قائد بطل قلت الشدائد..".
وعلى ذكر الشيخ كشك، فقد روى لي "بن لطفي" أنه عاصر آخر اعتقال له في نهاية عصر السادات وبداية عصر مبارك، وكيف أن ضابطاً شاباً في السجن استغل أن الشيخ أعمى، وكان يجلس على كرسي في فناء السجن، فلما رأى "كشك"، نادى عليه ليحدثه وهو جالس ويضع ساقاً على أخرى، ربما لينفس عن عقده النفسية بأنه يتحدث وهو هكذا مع نجم المنابر ومن ذكره رئيس الدولة في خطابه. فلما رأى "عبد الرحمن بن لطفي" المشهد، وكان في الطابق العلوي، نادي بصوت جهير: "إنه الشيخ كشك يا كلب"، فارتج على الضابط، ووقف انتباه!
اعتقل، ثم أفرج عنه، ليواصل نضاله عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ليتم اعتقاله منذ شهرين، دون أن نعرف اتهاماً له. ويبدو أنه تعرض لإجرام فأضرب عن الطعام حتى الموت
وهذا ولا شك من دلائل شجاعة الشيخ "عبد الرحمن بن لطفي"، وهي شجاعة كنت أعرفها، دفعتني لأن أتوقع كلما تذكرته بعد الانقلاب العسكري مكانه الطبيعي، وقد عرفت بعد عدة شهور أنه اعتقل، ثم أفرج عنه، ليواصل نضاله عبر مواقع التواصل الاجتماعي بشجاعة، ليتم اعتقاله مرة أخرى منذ شهرين، دون أن نعرف اتهاماً له. ويبدو أنه تعرض لإجرام لم يستطع دفعه، فأضرب عن الطعام حتى الموت، ليكون ثاني اثنين يموتان في إضراب الجوع، هو وشهيد النوبة، وقد ماتا في شهر واحد. وقد نقل النوبي للمستشفي، لكن "بن لطفي" لم يتم نقله أو علاجه، حتى بعد أن شاهده وكيل النيابة وهو فاقد للوعي. فكل ما فعله أن جدد حبسة خمسة عشر يوماً على ذمة قضية لم تنشر تفاصيلها.
ولم يكن "عبد الرحمن بن لطفي" إخوانياً، لكن لم يكن معادياً للإخوان في أي مرحلة من حياته. وكان ينتمي إلى التيار الإسلامي العريض؛ الذي رأى في الشيخ حازم أبو اسماعيل أنه خير من يعبر عنه، وإن كنت لم أناقش معه موقفه الحقيقي في مرحلة الثورة، رغم زيارته التي لم تنقطع للأحرار، ولم يكن يستأذن عند دخوله لمكتبي، وهو يحمل حقيبته المتواضعة الممتلئة بردوده وتعليقاته التي يوزعها على في جولته الأسبوعية، وبعض هذه الردود كان يكتبها في مكتبي!
بعد تعييني رئيساً لتحرير "الأحرار"، فاجأني بأنه فوق رأسي، وسألته مصطنعاً الجدية؛ إن كانت وكالة من غير بواب.. وأن عليه أن يعلم أني ترقيت، ليكون رده: لم أكن أنتبه إلى أنك ترقيت، ألا وأنهم رقوك؛ فأثبت هذا.. اضغط على الجرس وأطلب لي قدحا من "الحلبة". وأدهشني نفوذه هذا حتى مع سكرتيرة جديدة لا تعرفه، فسألتها كيف لهذا الشيخ القادم من قريش أن يدخل علي بدون استئذان في وجودك، فقالت: ليس غريباً.. إنه الشيخ عبد الرحمن.. ومن أين عرفت أنت الشيخ؟.. قالت إن من يجلسن معها في المكتب أخبروها أنها لا يجوز لها أن تعترضه!
وكانت قيمة الشيخ "عبد الرحمن بن لطفي" في بساطته وسماحته. فرغم لحيته الطويلة، وجلبابه الذي يدفع للنظر إليه على أنه قادم من البادية، إلا أنه كان قادرا على أن يكون جزءاً من أي مكان يعرفه، وكان حبيباً للجميع إذا اختلف الأصدقاء.
ويفخر "بن لطفي" بأنه ابن خالة "خالد الإسلامبولي"، وحكى لنا كيف أن خالته سيدة شجاعة، كان تقف أمام السلطات بكل بسالة ولا تهاب أحداً، حتى بعد إعدام ابنها، بيد أن والد "خالد" - بحسب رأيه - كان طيباً. وعندما التقيت بمحمد الإسلامبولي في إسطنبول، قلت، لفرط طيبته، إن هذا ابن ابيه. وقد كانت الخالة كالأم، عندما يتحدث الشيخ "عبد الرحمن" عن بعض المواقف الخاصة بوالدته.
عندما خرج "عبد الرحمن بن لطفي" من سجنه، بدا كما لو كان يتحسس طريقه إلى "الفيسبوك"، فيكتب ببطئ شديد، ويعلق على بوستات خاصة بي بعيداً عن موضوعها. فلديه رسالة يريدها أن تصل. ودخلنا في مناوشات معه على الخاص، هو يطلب مني أن أتبعه، فيكون ردي: لو اتبعتك لأدخلتنا في الحائط. لكنه يرد: "وأنت الصادق لو اتبعتني سننال معا شرف الإعدام في سبيل الله؛ لأن أفضل الجهاد كلمة حق"!
وكان ردي: "ابعد عن طريقي فليس منطقياً أبدأ حياتي الصحفية وأنهيها بك"! فيرد مازحا: "أنت كنت تريد أن تكون مثل بشار؛ فرحمك الله، فكن كعبد الرحمن حمزة بن عبد المطلب أفضل".. ثم يعلق: "من لم يهتم بأمر الليبراليين فليس منهم، ولذلك أحب أن يزداد أنصار الحرية ولا يجبنوا؛ لأنه إن لم يكن من الموت بد فمن العار أن تعيش جبانا"!
طلبتها يا شيخ.