نشرت
المجلة الرسمية التونسية، "الرائد الرسمي"، يوم 21 تشرين الثاني/ نوفمبر
الجاري، "قرارا
من رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الأمن القومي، مؤرخا في 30 تشرين الأول/ أكتوبر 2017،
يتعلق بتشكيل لجان قارة بمجلس الأمن القومي".
يبدو الأمر عاديا، فرئيس
الجمهورية معني بتسيير "مجلس الأمن القومي"، وهي مؤسسة تم تهميشها زمن
بن علي وأعادها للحياة الرئيس المرزوقي، وتخص الإشراف على نواحي حماية الأمن. وكان
يجتمع فيها بالقيادات الأساسية في الدفاع والأمن والخارجية، وهي الصلاحيات
المباشرة لرئيس الجمهورية في تونس. غير أن تفاصيل "القرار الرئاسي"
للسبسي تحيل على مجالات ومناحي تخص تقريبا كافة الوزارات، ويصبح فيها رئيس الحكومة
مجرد عضو في أحد اللجان الفرعية، وهو ما أثار تساؤلات جدية إذا ما كان القصد من
هذا القرار تأويل معنى "الأمن القومي" بشكل يجعل السبسي مسيطرا على
مختلف صلاحيات الحكم؛ بدون القيام بتحوير الدستور لتركيز السلطة في أيدي الرئيس،
وهو الأمر الذي تحدث فيه بعلانية ووضوح مساعدوه.
هناك وزارات يبدو ربطها مباشرة بـ"الأمن القومي"، نوعا من التعسف. إذ إن إمكانية انعكاس تأثيرها أو تأثرها بالأمن القومي
فهل تم تغيير الدستور، بجرة
قلم، بقرار رئاسي؟
بالتمعن في القرار نجد أن
تفاصيله تحيل على تشكيل لجان قارة يشرف عليها مستشار الأمن القومي لدى السبسي، الأميرال
كمال العكروت، وتشمل تقريبا 14 وزارة، بالإضافة لوزارات الدفاع والخارجية
والداخلية؛ التي يمكن أن تمس بشكل مباشر "الأمن القومي"، نجد وزارات لها
علاقة بمجال "الأمن القومي"، مثل المالية، لكن أيضا وزارات أخرى يبدو
ربطها مباشرة بـ"الأمن القومي"، نوعا من التعسف. إذ إن إمكانية انعكاس
تأثيرها أو تأثرها بالأمن القومي؛ لا يعني ضرورة أنها يمكن تكون فيها لجان قارة
تتبع مستشار رئاسي. وتشمل هذه الوزارات السياحة والصناعات التقليدية، والتنمية
والاستثمار والتعاون الدولي، والصناعة والمؤسسات الصغرى والمتوسطة، والتجارة،
والشؤون الاجتماعية، والشؤون المحلية والبيئة، والتكوين المهني والتشغيل، والتعليم العالي والبحث العلمي، والمرأة والأسرة
والطفولة، والشؤون الثقافية… إلخ.
وتعريف "الأمن
القومي"؛ هنا لا يتعلق بنقاش نظري أكاديمي حتى يمكن "تمطيطه"
وتوسيعه بكل حرية، بل هو محدد في الدستور التونسي، خاصة في الفصل 77، عند الحديث
عن صلاحيات رئيس الجمهورية، وهي كما يلي: "يتوّلى رئيس الجمهورية تمثيل
الدولة، ويختص بضبط السياسات العامة في مجالات الدفاع والعلاقات الخارجية والأمن
القومي المتعلق بحماية الدولة والتراب الوطني من التهديدات الداخلية والخارجية،
وذلك بعد استشارة ري?يس الحكومة". فالتعريف واضح هنا، ويختص بـ"حماية
الدولة والتراب الوطني من التهديدات". بمعنى آخر، التعريف يتجه للطابع الأمني
الضيق، وليس المعنى الواسع لمعنى "الأمن القومي".
ويتضح هذا المعنى المحدود
لـ"الأمن القومي"؛ عند التفصيل في صلاحيات التعيين الخاصة برئيس
الجمهورية في الدستور التونسي، وذلك في الفصل 78، حيث يتم التنصيص فيه فقط، بالإضافة
طبعا للتعيينات في رئاسة الجمهورية وتعيين محافظ البنك المركزي، على:
"التعيينات والإعفاءات في الوظايئف العليا العسكرية والدبلوماسية والمتعلقة
بالأمن القومي بعد استشارة رئيس الحكومة، وتضبط هذه الوظائف العليا بقانون".
وقد تحدثت نشرية "Maghreb Confidentiel" الفرنسية (التي تتابع أخبار
الكواليس السياسية) في عددها الأخير (الصادر يوم 30 تشرين الثاني/ نوفمبر)؛ عن هذا القرار، واعتبرته تفعيلا لـ"حكومة موازية" في سياق التنافس بين
السبسي ومساعديه ورئيس الحكومة الحالي الذي يرغب في الترشح للرئاسة سنة 2019. وأشارت
- مثلا - إلى رئيسية دور من عينهم السبسي في الحكومة، وتهميش دور رئيس الحكومة في
هذه اللجان القارة: "ويرأس كل
منها الوزير المعني، الذي يحيط به بانتظام نظرائه من الدفاع (عبد الكريم الزبيدي)
والداخلية (لطفي براهم)، وفي معظم الأحيان من المالية (رضا شلغوم). هذا هو الوقت
المناسب: يتم اختيار الأول، أي وزير الدفاع، من قبل قصر قرطاج، وفقا للدستور. وتم
فرض الاثنين الآخرين من قبل السبسي؛ على يوسف الشاهد، خلال التعديل الوزاري في تشرين
الأول/ أكتوبر الماضي. ويضطلع رئيس الحكومة بدور ثانوي: فهو يجلس في لجنتين فقط
("الأمن الاقتصادي والمالي" و"أمن الطاقة والموارد الطبيعية")،
ويمثله الكاتب العام العام للحكومة في ثالثة".
وقد ختمت النشرية تعليقها
بالخلاصات التالية: "لم يعد
قائد السبسي يخفي رغبته في استعادة الرئاسة كل الامتيازات التي تم سحبها بعد سقوط
نظام بن علي في عام 2011. وبعيدا عن صراعه مع يوسف الشاهد وحنين معين لحقبة
بورقيبة، يريد السبسي أن يحد من وزن حزب النهضة، وهو أول قوة سياسية في مجلس
النواب، ويشكل إلى حد كبير مصدر إلهام للنظام شبه البرلماني المنصوص عليه في دستور
2014.
هذه الحسابات السياسية الضيقة تحدث في سياق تجاهل لأي حلول جدية لوضع متأزم اقتصادي واجتماعي
أما فيما يخص التنافس بين
السبسي والشاهد، فنحن إزاء تزايد المؤشرات على تشكل حزام سياسي حوله تحت عنوان
"الجبهة البرلمانية التقدمية" (تضم حوالي 40 نائبا معظمهم ممن انشقوا
سابقا عن حزب نداء تونس)، وبادرت منذ الآن لتسريبات تخص ترشيحه في الانتخابات
الرئاسية القادمة. يضاف إلى ذلك؛ التقارب الواضح بين أكبر منظمة اجتماعية
"الاتحاد العام التونسي للشغل" والشاهد، حيث أصبح بوضوح يتمتع بدعم واضح
منعا، وبمعنى آخر أصبح "تحت حمايتها".
هذه الحسابات السياسية
الضيقة، التي تعكس هيمنة الاستحقاق الانتخابي لسنة 2019 على عقول أصحاب السلطة
الحالية، تحدث في سياق تجاهل لأي حلول جدية لوضع متأزم اقتصادي واجتماعي، حيث تغفل
هذه الهواجس السلطوية البحتة أن الشارع لا يزال القوة الضاربة الأكثر أهمية، وأن
سباته ليس أمرا أزليا. وهكذا، فإن تهديد الأمن القومي - فعلا - يتم عبر هذه الأطماع
المتلاطمة من أجل سلطة ربما لن يكون لها معنى إذا تحركت جحافل العاطلين، وقررت،
عوض أن ترمي نفسها في أتون البحر، أن ترمي نفسها في الساحات العامة وتعود للعمل
السياسي الاحتجاجي المباشر.