أثارت طريقة معاملة الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، المهينة لرأس النظام السوري؛ موجة تساؤلات عن الاحتقار الذي تلقاه الديكتاتوريات العربية، حتى من قبل أنظمة تتشارك معها نمط الحكم اللاديمقراطي. ولماذا هناك نظم مستبدة في آسيا وأمريكا اللاتينية، لكنها تعامل في المجال الدولي باحترام أكبر؟
يعتبر فلاديمير بوتين أستاذ مدرسة الطغاة في العصر الحديث، فهو لم يكتف بقهر شعبه وإخضاعه، بل طالت يده شعوب دول الجوار التي هدّم وحدتها، وخرب نسائجها الاجتماعية. ولم يقف الأمر عند هذا الحد أيضا، بل تبنى كل طاغية ينفر منه شعبه، وكل مستبد أثبت انه يكره الحرية، وسعى إلى تصدير خبرته في هذا المجال للطغاة الجدد.
وكان من الطبيعي أن يظهر بوتين تعاطفه مع هذه الفئة من الحكام التي تسير على نفس دربه في الاستبداد، أقله للمساعدة في تعويم سلطة هؤلاء الحكام، أو إظهار أنهم يتمتعون بالاحترام، وفي الحقيقة؛ بوتين فعل ذلك مع حكام دول آسيا، كازاخستان وطاجيكستان، فضلاً عن حكام إيران، كما أنه يكن بالغ التقدير لكيم جونغ إيل، ديكتاتور كوريا الشمالية.. فلماذا لا يحظى بشار الأسد بهذه الدرجة من المعاملة، وخاصة وأنه يعتبر نفسه سليل عائلة استبدادية بامتياز، كما ان إنجازاته في هذا المجال، وعلى صعيد القتل والتهجير، تجعل من الطغاة الآخرين مجرد هواة، وترشحه ليحتل منصب عميد الديكتاتورين في العصر الحالي.. فلماذا يجري احتقاره وتهميشه؟
جواب هذا السؤال موجود في سيرة الديكتاتوريين العرب.. فهم مدرسة قائمة بذاتها في هذا المجال، فقد بنت الديكتاتورية العالمية حكمها وهيبتها على قاعدة مشاريع استراتيجية كبرى، سواء على صعيد تحديث الداخل، كما فعلت ديكتاتوريات شرق آسيا في النصف الثاني من القرن العشرين، وكما فعل أتاتورك في تركيا، أو توحيد البلاد، كما فعلت بعض ديكتاتوريات أفريقيا، أو القيام بمشروع عسكري ضخم، كما فعلت الأسرة الحاكمة في كوريا الشمالية، أو حتى بناء هيبة وسطوة خارجية، كما تفعل روسيا بوتين في الوقت الحالي.
صحيح أنها بقيت أنظمة مكروهة، لكن بدرجة معينة صنعت إنجازات أدخلت دولها إلى نادي الحداثة الدولي، لدرجة أن الانظمة اللاحقة اعتبرتها جزءا من صيرورة التحديث
واستطاعت هذه الديكتاتوريات الظهور بمظهر الأنظمة المبدئية التي تلتزم قضايا معينة حسب سلم أولويات تتبعه، كما أنها حازت على درجة من الشرعية. صحيح أنها بقيت أنظمة مكروهة، لكن بدرجة معينة صنعت إنجازات أدخلت دولها إلى نادي الحداثة الدولي، لدرجة أن الانظمة اللاحقة اعتبرتها جزءا من صيرورة التحديث التي مرّت بها دولها.
على العكس من ذلك، سلكت الديكتاتوريات العربية نهجا آخر، إذ أسست سلطتها على الفساد والمحسوبية والعائلية وهدر الأموال العامة. وعلى الصعيد الخارجي، سيّرت علاقاتها على قاعدة الإستكانة وأدرجت هذه الوضعية في إطار الحنكة والحكمة، فكلما استكانت للخارج كلما أمنت شروط بقاءها لأطول فترة في كرسي السلطة، ومقابل ذلك جرى كثيراً التنازل عن مصالح دولها وشعوبها وتقديمها هدايا للخارج، طالما يضمن ذلك رضا الخارج.. ألم تعتبر ديكتاتوريات سوريا ومصر أنها غير منهزمة في حرب 1967 طالما أنها لم تسقط؟ وكأنه لم يكن الأجدى بها أن تستقيل لمجرد هزيمتها المدوية!
الديكتاتوريات العرب قرأت من كتاب واحد.. العدو في الداخل دائماً، والخطر يأتي من الداخل، والخارج لا يكون عدواً إلا في حال تبنى سياسة تتعاطف مع ضحايا الطاغية
جميع الديكتاتوريات العرب قرأت من كتاب واحد.. العدو في الداخل دائماً، والخطر يأتي من الداخل، والخارج لا يكون عدواً إلا في حال تبنى سياسة تتعاطف مع ضحايا الطاغية. وما دام العدو في الداخل، فإن كل أصناف الأسلحة والوسائل التخريبية مسموح ومباح استخدامها، بما فيها تدمير المجتمع وتحطيمه، بقدر ما تملك يد الحاكم من الوصول إليه من تدمير وتخريب. ألم تشوّه الأنظمة دين الأكثرية التي تحكمها لتبرير قتلها أمام العالم وحماية سلطاتها، في الوقت الذي يسعى بوتين إلى التناسق مع الكنيسة الأرثوذكسية في سياساته الخارجية؟
ويدخل في إطار هذه الحرب على المجتمعات استدعاء الخارج، عبر إغرائه بالثروات والمكاسب. وهنا ثمّة فرق بين الديكتاتور بوتين الذي يجلب لبلاده العقود التجارية والمكاسب الجيوسياسية، وبين السيسي والأسد اللذين يبذران ثروات بلادهما للحفاظ فقط على كراسي الحكم.
هذا النمط من الديكتاتوريات قد يقبله العالم ويتعايش معه.. في النهاية لا يوجد بلد أو مجموعة بلدان حارسة للديمقراطية وحريصة على حقوق الإنسان، على الأقل هذا ما أثبتته استجابة ديمقراطيات العالم لعذابات شعوب الربيع العربي. لكن في المقابل، لا أحد، على مستوى العالم، يحترم هذه الأنظمة أو يتعامل معها بجدية، حتى أمثالها من الديكتاتوريين، فهم مجرد قتلة محليين، لا يختلفون عن زعماء القبائل الأفريقية في عصر ما قبل الدولة والحداثة.