عملتها يا عاكف!
أذكر أنني كنت أجلس مع شخص يدعى "ريمون دويك" - وكان يهوديّا شيوعيّا مات قريبا في فرنسا - وابنه كان سفيرا للكيان الصهيوني في مصر بعد اتفاقية كامب ديفيد بفترة، ودخل إخواننا من الشرقية يرتدون "اللبد والبلغ"، فقال لي هذا اليهودي: مسيو عاكف هل هؤلاء إخوان؟ فقلت نعم: فقال لي: لن تهزموا أبدا؛ لأنه رأى أننا متوغلون في الريف المصري.
ومما أذكره من الحوادث الطريفة، عندما حدثت الهدنة الأولى،أنه أحب اليهود أن يعملوا حفلا يحضرون فيه الخمر ويشربون ويرقصون بمناسبة الهدنة ونحن دماؤنا لم تجف بعد، فاتفقنا فيما بيننا أننا لا بد أن نكدر عليهم هذا الحفل. وبالفعل أحضرنا زجاجات المياه الغازية وملأناها بالرمال، وشربوا هم الخمر وبدأوا يرقصون على الموسيقى، فأطفأنا الكهرباء وضربناهم بالزجاجات من خارج الباب. وصنع لنا الأخ كمال فريد شايا بلبن، وجلس كل منا على سريره وظلوا هم يضربون في بعضهم، ثم أضأنا النور وجلسنا نشرب الشاي واللبن. وكان المأمور صعيديّا فقال لي: عملتها يا عاكف، وبعد أسبوع تم ترحيلنا إلى الطور، وكانت فترة طيبة تعلمنا فيها كثيرا.
رحلة عذاب
كتبت صحيفة الكتلة التابعة للأستاذ مكرم عبيد؛ عن المعاناة التي كنا نعيش فيها بقولها: "افتتحت الحكومة الإبراهيمية منفى الطور، ولا نبالغ إذا قلنا إنها اتجهت في أساليبها في هذا المعتقل نفس الاتجاهات التي كان النازيون يعاملون بها أعداءهم السياسيين في معسكرات "بلسين" و"يوخنفيالد". ولقد فرضت الحكومة على المعتقلين في هذا المنفى أن يناموا على ألواح خشبية في حجرات مزدحمة؛ سقوفها مشققة، بحيث تسمح للمطر أن يتساقط على سكانها في أي لحظة. وعينت متعهدا للطعام كان يتقاضى عن الفرد الواحد خمسة قروش يوميا، وكان في العقد المبرم بين الحكومة والمتعهد ما ينص على أن يتناول المعتقلون كميات من خبز ودقة فقط. وقد أدى ذلك إلى اعتماد المعتقلين القادرين؛ على الأغذية المحفوظ الخالية من أي فيتامينات ومن عناصر التغذية الكاملة، ما أدى إلى تدهور صحة كثير من المعتقلين.. ولم تكتف الحكومة بأنها لم تترك بيتا إلا أخذت خير من فيه من الرجال لتقذف بهم إلى حجرات التعذيب، ولكن وصل البلاء إلى حد تكميم أفواه من بقي خارج السجون والأسر من الأحرار، وشهرت سلاح الأحكام العرفية البغيضة في وجه كل من تحدثه نفسه بالاحتجاج، أو حتى بتقديم النصيحة.
وأتذكر اللواء عباس عسكر، قائد معسكر الطور، فور وصولنا إلى هناك؛ قال لنا: "يا أولادي! كنت أظن الإخوان مجموعة من الرعاع مثلما أفهمتني الداخلية، غير أني وجدت فيكم الصحفي والأديب وأستاذ الجامعة والعالم الديني وحامل الدكتوراه والمهندس.. وغير ذلك. لهذا فلتعلموا أني معتقل مثلكم، وهم لم يرسلوني إلى هنا برضا مني، بل غصبا عني".
غير أن الحكمدار عباس ضاق؛ ذرعا بمحاسبة المسؤولين له، فجرد حملات التفتيش على الحزاءات، وبدأ بأول حزاء، دخله ومعه قوة من "بلوكات" النظام والهجانة، ومعهم يوم لكل حزاء، إلى أن جاء دورنا. وفي صبيحة هذا اليوم، شغلت وزميلي "عزت" بكيفية إخفاء مذكراتي، فأحضرت علبة "بويه" ووضعت داخلها أوراق المذكرات، ووضعت بطاطين في مواجهة جندي الحراسة على الأسلاك الشائكة، وقمت بحفر الأرض بعمق متر تقريبا متجها بالحفر إلى خارج الأسلاك الشائكة، ثم وضعت العلبة في قاع الحفرة خارج منطقة الحزاء، وأهلت عليه الرمال. وقدم الحكمدار في قوته يرغي ويزبد ويتوعد، وقام ضباطه وجنوده بالتفتيش حجرة حجرة، إلى أن وصل إلى المصلى، وحان وقت أذان الظهر، وكانوا قد أحضروا كرسيا بجوار المصلى جلس عليه، وفي محاذاته وعلى بعد أمتار منه انطلق صوت الأخ المؤذن بالأذان، وكأنها صاعقة نزلت على أم رأسه، فأمر جنوده الهجانة بإسكات المؤذن.. فاستمر يؤذن، فضربوه بالكرابيج، فظل يؤذن وهو يبكي من شدة الضرب، وهنا تأثر الضباط بالمنظر وامتنعوا عن ضربه حمية لدينهم، واتجهوا نحو الحكمدار بعيون عاتبة، فخشي من تطور الموقف ضده، فأمر جنوده بإيقاف التفتيش والانسحاب من الحزاء، ثم عاد إلى مكتبه.
وفي الصباح توجه بنا الشيخ محمد الغزالي إلى باب المعتقل، وأخذ يردد هتافات عدائية ضد الحكومة والحكمدار، فإذا بالجنود في موقع مبنى الإدارة يتجمهرون ويرددون نفس الهتافات، ويهجمون على الحكمدار، فيحطمون مكتبه وينهالون عليه ضربا، لولا تدخل الضباط الذين أنقذوه من بين أيديهم. وأُبلغت القاهرة باللاسلكي، واعتصم الجنود بمبنى الإدارة، وعلمنا بعد ذلك أن سبب المظاهرة هو تأثر رجال الهجانة بالأخ المؤذن الباكي، وتذمر جنود بلوكات النظام من سوء التغذية واستئثار الضباط بالطعام.. وكلٌ يبكي على ليلاه.
فوجئنا في آخر النهار؛ بوصول طائرة تحمل طاقما جديدا من الضباط ومعهم حكمدار جديد للمعتقل، وعادت بالحكمدار عباس عسكر وضباطه، وجاءت بعدها الباخرة عايدة تحمل قوة من الجنود، وعادت بالجنود المتمردين، حيث أحيلوا إلى مجلس تأديب.
ولقد كوّن الإخوان لجنة للتواصل مع إدارة المعتقل؛ من مصطفى مؤمن، وأحمد عبد العزيز جلال، وأنور الجندي، وأحمد أنس الحجاجي، ومحمد البنا (شقيق الإمام الشهيد ومدير مجلة الشؤون الاجتماعية)، ومحمود عساف.
رسبت في الامتحان
لم نمكث طويلا في جبل الطور، وأذكر جيدا بعد صيام رمضان، وفي ليلة العيد، جاءنا خبر إقالة الملك لوزارة إبراهيم عبد الهادي، وتعيين حسين سري رئيسا للوزارة. وكانت هذه هدية الملك للشعب. وبدأ الإفراج عن المعتقلين، ونقلونا مرة أخرى للهايكستب. وفترة الهايكستب كانت تقريبا في نهاية العام، أي في تشرين الثاني/ نوفمبر أو كانون الأول/ ديسمبر 1949، فقررت الحكومة عمل اختبارات للطلبة الذين كانوا في المعتقل، وأحضروا لجانا من المدارس والجامعات لتعقد الامتحانات داخل المعتقل. فحضر الشيخ المهندس - والد الممثل فؤاد المهندس - ليمتحن طلاب دار العلوم، وحضر الدكتور إبراهيم فرج ليمتحن طلاب كلية العلوم، وكان يسكن بجواري في العباسية فوق عبد الحكيم عامر. أما أنا، فلأنني كنت طالبا في التربية الرياضية، فقد رفض عميد المعهد وقال إن "المعهد عملي ولا يجوز أن نقوم بامتحانه نظريا". وقد قضينا في الهايكستب فترة طيبة جدا حتى بدأت الإفراجات عنا، وكنت أنا من آخر الناس الذين خرجوا، فخرجت في كانون الثاني/ يناير عام 1950، ورجعت للمعهد وقد ضاعت علي هذه السنة.
كنت رئيسا لاتحاد الطلبة، كما كنت قبل دخول المعتقل، وكان لي أحد الزملاء يدعى حلمي إبراهيم - كان أصغر طالب في الدفعة وهو الآن دكتور في كاليفورنيا - وله قريب كان مدير مكتب طه حسين، وزير التربية والتعليم آنذاك، وفوجئت بوصول خطاب من الوزير للمعهد بعقد اختبار خاص لي لأنني لم أمتحن، فأرسل لي العميد وطلب رأيي في ذلك، وقال: "تحب أن تدخل الامتحان أم ترغب في تأجيله، لأننا نتوقع لك أن تكون من المتفوقين ونريدك معنا في المعهد؟"، ووافقت على أداء الامتحان. وكان ذلك في شهر آذار/ مارس.
ومن الطريف، أنني كنت أمتحن في مادة علم النفس والتربية في مكتب العميد، فأحضر لي أحد الأساتذة كتبا وقال لي: "انقل منها ما شئت"، فرفضت وقلت له: "لا يا دكتور إما أن أنجح بمجهودي وبعلمي وإلا فلا داعي لنجاحي"، ورفضت الغش.. وظهرت النتيجة في 5 نيسان/ أبريل 1950 ونجحت، ثم دخلت الامتحانات التالية في 5 أيار/ مايو من نفس العام، وتخرجت.. وكانت المواجهة مع البوليس السياسي بخصوص التعيين.
اقرأ أيضا: صفحات من الذكريات: رحلة في ذكريات عاكف (6)
اقرأ أيضا: صفحات من الذكريات: رحلة في ذكريات عاكف (5)
صفحات من الذكريات: رحلة في ذكريات عاكف (5)
صفحات من الذكريات: رحلة في ذكريات عاكف (4)
صفحات من الذكريات: رحلة في ذكريات عاكف (3)