امتدح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين
نتنياهو، في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول/ سبتمبر الماضي، "عبد الفتاح
السيسي"، واصفا إياه ب"الشجاع"، وذلك بعد أن تقابل الاثنان في لقاء "دافئ" ومرح كانت فيه ضحكاتهما المدوية أبرز ما لفت الانتباه فيه. وبغض النظر عن دلالات هذا اللقاء، وما سبقه من لقاءات سرية بين الاثنين كشف عنها قبل أشهر، إلا أن
مصر شهدت عدة وقائع أخيرة تكشف عن أبرز ملامح "شجاعة" السيسي الخارقة التي امتدحها نتنياهو.
حبس مهدي عاكف، الرجل التسعيني، وتركه يموت دون الإفراج عنه، ثم منع الصلاة عليه أو إقامة جنازة له.. كان أبرز تلك الأحداث التي كشفت عن شجاعة السيسي في مواجهة خصومه. ليس هذا فحسب، بل امتدت تلك الشجاعة أيضا إلى وضع حراسة على قبر مرشد الإخوان السابق لعدة أيام بعد وفاته، وإصدار وزارة الأوقاف قرارا بمنع صلاة الغائب عليه في جميع مساجد مصر، في مستوى كاشف من الفجور والانحطاط في الخصومة، وكذلك مستوى غير مسبوق من "الشجاعة" الممتدحة إسرائيليا، ووصلت إلى درجة أن صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية أبدت استغرابها من منع الصلاة على عاكف في مصر ومعظم الدول العربية، في الوقت الذي أقيمت فيه صلاة الغائب عليه داخل مناطق تابعة لإسرائيل، وهي مناطق عرب 48 في الداخل، وكذلك أقيمت صلاة الغائب على الرجل في عواصم أخرى إسلامية وغير إسلامية.
وقد استلهمت أذرع السيسي الإعلامية شجاعته في التعامل مع الرجل بعد وفاته، وقامت بالتشفي في موته بطريقة منحطة، وقامت صحيفة حكومية بسبه بلفظ حقير مثلها، ووصفه الذراع أحمد موسى بـ"السفاح". وحاولت صحيفة الأهرام أن تلصق بالراحل تهمة "الإرهاب"، لكنها فشلت فشلا ذريعا، واقتصر تقريرها على سرد الاتهامات الهزلية التي كان يحاكم الرجل بسببها من عينة "إهانة القضاء"، وغير ذلك من تهم لا تصمد أمام أي قضاء محترم. كما تجاهلت دور الرجل في مقاومة الاحتلال الإنجليزي، وادعت أنه قام بعمليات وتفجيرات، دون أن تذكر باقي الحقيقة، وهي أنها كانت موجهة ضد الاحتلال! وهو أمر طبيعي أن تعتبر المقاومة إرهابا من صحيفة تنتمي إلى إعلام يتهم المقاومة الفلسطينية ضد إسرائيل بالإرهاب. كما حاول الذراع الإعلامي عمرو أديب أن يوحي بأن مهدي عاكف كان يعالج في المستشفى ولم يكن مسجونا، وأن تكاليف علاجه تكلفت أكثر من مليون جنيه، رغم أنه كان يعالج على نفقته الشخصية ولم يكن يعالج على نفقة الدولة، وكأن محاولة أسرة الراحل علاجه هي سبة في جبينها تستدعي الخجل منها!
ليست هذه هي الحالة الأولى لمعتقلين مرضى لا حول لهم ولا قوة؛ في سجون السيسي، فقد سبق عاكف كل من "فريد إسماعيل"، البرلماني السابق، وكذلك البرلماني السابق "محمد الفلاحجي"، وكلاهما ماتا في سجون السيسي بعد رفض الإفراج عنهما.. وكذلك الشاب "مهند" الذي أصيب بالسرطان وهو في السجن ليموت بعد الإفراج عنه بأشهر، فضلا عن العشرات من الحالات الأخرى لمعتقلين توفوا نتيجة الإهمال الطبي، بالإضافة إلى شيوخ طاعنين في السن، مثل المستشار الجليل محمود الخضيري، الذي لم يتركه السيسي بعد قضاء مدة عقوبته الأولى، ليقوم بتلفيق تهمة أخرى له بعد انقضاء عقوبته في التهمة الملفقة الأولى، ويستمر في حبسه؛ حتى الآن رغم مرضه وكبره في السن، فضلا عن الباحث هشام جعفر الذي يعاني من احتمال فقدانه البصر بسبب الإهمال الطبي، وعشرات غيرهما مهددين بفقدان حياتهم ويستحقون علاجا وإفراجا صحيا منحه السيسي لرجل مثل هشام طلعت مصطفى؛ الذي أدين في جريمة قتل بحكم نهائي، ومع ذلك خرج بـ"إفراج صحي" بدعوى تدهور حالته الصحية، لنراه بعد ذلك يقوم بلعب مباراة في الكرة الطائرة مع رجل الأعمال السعودي الوليد بن طلال، ونكتشف أنه يتمتع بصحة ممتازة. والمضحك أنه قضى سنوات عقوبته في جناح فخم بمستشفى مطلة على النيل؛ بزعم تدهور حالته الصحية!
أما عن "الأعداء الخارقين" الذين انتصر عليهم السيسي بشجاعته وبطولته الفذة، فتشمل أيضا أفلاما وأشعارا ورسومات كاريكاتورية و"تي شيرت" ومذيعة تلفزيونية ولاعب كرة قدم ومواقع الكترونية! فقبل عامين، دخل السيسي في معركة شجاعة ضد لاعب كرة قدم شهير كان ينتظره مستقبل كبير، لكنه تجرأ وكتب على حسابه بموقع فيسبوك ينتقد السيسي على تقصيره في حماية أرواح الجنود في سيناء، ليقرر ناديه الاستغناء عنه، وترفض جميع الأندية الأخرى التعاقد معه، ويتم سبه ليل نهار في وسائل الإعلام المصرية، ليجد نفسه في النهاية لاعبا بأحد الأندية في دوري الدرجة الثالثة.
وفي كانون الثاني/ يناير من العام الماضي، ألقت قوات الأمن القبض على رسام الكاريكاتير إسلام جاويش، بعد أن انتشرت رسومه الناقدة للسيسي والنظام، لكن وبعد الضجة الكبيرة التي أثيرت وردود الأفعال القوية، أفرج عن إسلام، بل وخرج السيسي نفسه ليقول إن إسلام مثل ابنه وأنه ليس غاضبا منه! إذن ففيم كان القبض عليه، إلا إذا كان السيسي يريد أن يقول إنه لا يعرف ما حدث، وهو أمر مستبعد بالطبع؟ وقد أبى السيسي إلا أن يثبت عدم صحة ادعائه بعد أشهر قليلة من ذلك الحادث، عندما ألقي القبض على أفراد فرقة "أطفال شوارع"، وهم مجموعة من الشباب صغير السن؛ يقومون بتصوير فيديوهات ساخرة على مواقع التواصل الاجتماعي، وذلك بتهم تشمل "إهانة الرئيس"، ليظهر أن السيسي، وهو رئيس الجمهورية، شخصيا يدخل نفسه في خصومه مع مجموعة من الشباب لا حول لهم ولا قوة. وقد حمل شهر حزيران/ يونيو من نفس العام خبرا صادما أيضا، بعد ترحيل المذيعة ليليان داود بشكل مفاجئ، رغم أنها لم تنتقد السيسي في أي وقت، بل كانت تؤيده، لكنها فقط أعربت عن رفضها للقبض على علاء عبد الفتاح، الناشط السياسي. وقال زوج ليليان السابق إن القوة الأمنية التي داهمت بيتها أخبروها أن الأوامر جاءت من مكتب السيسي شخصيا، وأن وزير الداخلية يشرف بنفسه على العملية. ولا ننسى بالطبع معركة السيسي الشجاعة ضد "تي شيرت" كان يرتديه شاب صغير يحتوي على عبارة "وطن بلا تعذيب"، ليتعرض الشاب للاعتقال لأكثر من عامين، ويتعرض لانتهاكات واسعة قبل أن يفرج عنه.
تنكيل السيسي بخصومه امتد إلى عائلاتهم أيضا، فلم يكتف الأخير بعزل المستشار هشام جنينة من منصبه وإحالته للمحاكمة، بعد تصريحاته عن حجم الفساد في البلاد، بل قام أيضا بفصل ابنته من عملها بالنيابة الإدارية، بحجة قيامها بسب وزير العدل السابق أحمد الزند، ونشرت الجريدة الرسمية القرار. ووقع السيسي شخصيا نص القرار.
أما آخر ضحايا معاركة السيسي الشجاعة، فكانت ضد "قصيدة شعر" اعتقل بسببها كاتبها الشاعر "سامي غازي محمود"، بعد أن سلم نفسه للسلطات التي كانت قد اعتقلت شقيقه لإجباره على تسليم نفسه. وهي سياسة شجاعة معروفة عن رجال الأمن في مصر، لتقضي المحكمة بتغريمه عشرات الآلاف من الجنيهات بعد حبسه لمدة ثلاثة أشهر. كما ألقي القبض على الشاعر "خالد سعيد" بسبب قصيدة أخرى أيضا. وأخيرا، استعرض السيسي شجاعته ضد المواقع الإخبارية ليقرر حجب أكثر من 400 موقع منها؛ لأنها تقول ما لا يعجبه. فبدلا من الرد على المعلومات والحقائق بمعلومات وحقائق مضادة، لجأ إلى أسلوب الحجب؛ لأنه ليس لديه أي شيء يقدمه سوى ذلك.
السيسي نفسه حاول ادعاء الشجاعة في إحدى خطبه الهزلية المعتادة، عندما اخترع حكاية مقابلته مع أحد المواطنين في الإسكندرية، زاعما أن المواطن قال له "احنا معاك.. متخفش". وبعد تلك الحكاية الخيالية، بدأ السيسي يكرر في خطابه عشرات المرات أنه لا يشعر بالخوف، لكن هذه التأكيدات الكثيرة أوحت للمصريين بالعكس تماما، وهو أن السيسي خائف بالفعل ويحاول إخفاء ذلك.
وها هي الانتخابات الرئاسية على الأبواب، والسيسي يخاف من أي مرشح قد يقف أمامه في الانتخابات، وما حدث مع كل من خالد علي وأحمد شفيق خير مثال، فلم تتوقف حملات التشويه ورفع الدعاوى القضائية ضدهما لمجرد أنهما أعلنا رغبتهما في الترشح للانتخابات، رغم أن أحدهما (شفيق) يعيش خارج البلاد منذ أربع سنوات، حتى إن صحيفة موالية للسيسي وصفت محاولات التوافق على مرشح مدني للانتخابات الرئاسية بأنها "مهزلة"! كما رأينا اعتقال وسجن "أحمد قنصوة"، العقيد بالجيش المصري لمدة ست سنوات بتهمة عجيبة، وهي "الترشح للرئاسة"، رغم أن السيسي نفسه ظهر بالزي العسكري في 2014 ليعلن ترشحه، ورغم محاولات قنصوة المتكررة تقديم استقالته ورفضها بهدف قطع الطريق عليه للترشح. وبعد كل ذلك، تظهر الأذرع الإعلامية للسيسي لتقول للمصريين بكل وقاحة إنه لا يوجد بديل عن السيسي، وأنه – للأسف - لا يوجد مرشحون يمكن أن يقفوا أمام السيسي في الانتخابات.
يفترض فيمن يتولى مناصب كبيرة أن يكون مترفعا عن الصغائر، ومتقبلا للانتقادات بصدر رحب. لكن السيسي يبدو مهتما بأدق التفاصيل وتوافه الأمور، ولا يسمح بأي انتقاد، ولا يرحم ضعيفا، رغم سيطرته الكاملة على الجيش والشرطة والقضاء والإعلام والبرلمان، ليبدو وكأنه مصاب بـ"الفوبيا"، في الوقت الذي يحاول فيه تأكيد شجاعته الزائفة.
يقول المثل الشعبي المصري: "ما جمع إلا أما وفق"، وبالفعل جاءت الإشادة بشجاعة السيسي من شخص مثل نتنياهو؛ الذي تفنن في استعراض شجاعته ضد الأطفال الفلسطينيين الأبرياء والمدنيين العزل عشرات المرات خلال الأعوام الماضية، وقتل منهم الآلاف، ليأتي السيسي فوق دماء الآلاف أيضا من أبناء شعبه، ليجد نتنياهو فيه ضالته وشبيهه في الشجاعة.