بعد إسقاط الطائرة
الإسرائيلية بفعل المضادات الأرضية السورية، وبقرار
إيراني على الأرجح، وربما بتنفيذ إيراني أيضا، كشفت النقاشات العربية عن عمق التعقيد الذي تعانيه الأمة في هذا الوقت بالتحديد، والنتائج المعنوية السلبية الهائلة المترتبة على طريقة التدخل الإيراني في الموضوع السوري، وهذا وإن كان مفهوما ومحقّا، إلا أنّه يتمدد في اتجاهات خاطئة، تشوّش على النقاش، ولا تدخل في جوهر المسائل.
بمعنى أنه انقلب النقاش من الدلالات الإستراتيجية على إسقاط الطائرة، والمشاعر الطبيعية والتلقائية من توجيه ضربة عربية لرمز التفوق الإسرائيلي.. انقلب النقاش من ذلك إلى التأكيد على الموقف من النظام السوري، ومن إيران والقوى المتحالفة معها والمتدخلة في
سوريا، على نحو فتح مأساة سورية دامية لم تتوقف حتى اللحظة.
الانحراف بالنقاش إلى هذا الاتجاه، يستبطن خشية من تحول البهجة بإسقاط الطائرة الإسرائيلية، إلى تأييد مطلق للنظام السوري وحلفائه، وهو استبطان يعجز عن تفكيك الأشياء والأحداث، وملاحظة حجم التعقيد في التدافع الراهن بين القوى الإقليمية والدولية المتصارعة اليوم على الأرض العربية عموما، وعلى سوريا خصوصا.
بكلمة أخرى ومباشرة، إن الصدام المباشر بين إيران أو سوريا أو حزب الله وبين "إسرائيل" هو ما يُفترض أن يكون سلوكا طبيعيّا، لا بسبب الشعارات التي يرفعونها فحسب، ولكن لأنّ هذا هو الأصل من جهة كونهم عربا أو مسلمين أو أصحاب مشروع ثوري - كما يُفترض - في مواجهة ما تطلق عليه إيران "الاستكبار العالمي".
هذا الأصل ينسحب على كل من هو عربي ومسلم وتحرري، فتفكيك "إسرائيل" وإزالة الكيان الصهيوني، أو الانشغال بذلك، أو على الأقل اتخاذ موقف ممانع من وجود "إسرائيل"، هو ما يُفترض أن يكون موقف الكل العرب والمسلمين، وأي ممارسة، ولو كانت عابرة في هذا الاتجاه، هي خطوة صحيحة، مع ضرورة أن نأخذها - طبعا - في سياق الفهم والتحليل الصحيح، وبتعبير آخر لا يسعنا إلا أن نؤيد مثل هذه الخطوة، وأن نعتبرها المدخل لتصحيح الاتجاه.
وهذه الخطوة، واعتبارها خطوة صحيحة، والابتهاج بها، لا ينطوي على أيّ قدر من تأييد النظام أو حلفائه فيما يخص القضية السورية، ولا يعني الرضى بممارساتهم في سوريا. وإعادة تصوير المسألة على هذا النحو غريب، وهو تصوير منبثق أساسا من المقارنات التي انطلقت مع بدايات الثورة السورية واستمرت، وباتت تستحضر دائما جرائم النظام السوري وحلفائه في مقابل جرائم "إسرائيل"، وبما يُظهر الأمر، وكأنّ ثمة مشكلة تمثّلها القضية الفلسطينية، مع أنّ هذه المقارنات خاطئة من حيث الشكل والمضمون، فلا القضية الفلسطينية بدأت أمس، ولا جرائم الاحتلال وحجمها هي القضية فحسب.
وأيّا كان الأمر، فلا معنى لهذه المقارنات، التي تنتهي دائما بالتهوين من شرّ الاحتلال الصهيوني، وبما يؤدّي في النتيجة إلى تغييب جوهر القضية الفلسطينية وأصلها، وبما يُغفل خطر الكيان الصهيوني على العرب كلّهم، الذي لم يزل - بالمناسبة - يحتلّ أرضا سوريّة.
نحن مثلا لا نجد أنفسنا مضطرين للتذكير بجرائم الاحتلال الصهيوني الراهنة أو تلك التي اقترفها على مدار 70 عاما، في سياق المقارنة مع جرائم النظام السوري وحلفائه في سوريا، فالتزام هذه المقارنة يجعل القضيتين في مقابل بعضهما، ويصوّر المسألة وكأن أحدهما سبب للأخرى، وهذه هي عين دعاية النظام وحلفائه؛ الذين يرون الثورة السورية مكيدة دولية بسبب مواقفهم من القضية الفلسطينية، دون أي اعتبار منهم لكرامة الإنسان السوري، والغريب تبني السردية من بعض خصوم النظام وحلفائه، وإن باتجاه معاكس، إذ لا يغيب عن سجالاتهم التقليل الدائم من جسامة القضية الفلسطينية، بمناسبة، وبدون مناسبة!
وإذا كان يصعب على السوري المشتبك مباشرة مع النظام وحلفائه؛ تفكيك المسألة على هذا النحو، فمن الغريب أن يُبدي بعض الفلسطينيين الضيق من سقوط الطائرة الإسرائيلية، وإن لم يكن ضيقا سافرا ومعلنا، ولكنّه مقنّع بصرف النقاش بشكل كامل إلى الحديث عن جرائم النظام وحلفائه، وكأن طائرة لم تسقط، أو وكأنّ سقوطها يسوؤهم، أو بالتذكير الدائم بأنّ هذه مرّة يتيمة وعابرة، وكأنّهم يودّون لو كانت منعدمة!
وبطبيعة الحال، الحديث هنا ليس عن حلفاء "إسرائيل" شبه المعلنين في بعض البلاد العربية، الذين يسوؤهم حقّا سقوط تلك الطائرة، وينبغي على المرء أن يعزّ عليه أن يجد نفسه في صفّ هؤلاء العملاء!