في سلسلة هذه المقالات التي كتبناها حول ضرورة المواجهات وعملية
النقد الذاتي، كان من المهم أن نتحدث عن أساتذة
العلوم السياسية وحال الأزمة التي عبروا عنها؛ حينما نشبت الثورات العربية. فأستاذ العلوم السياسية الذي كان يبشر دائما بضرورات التغيير والقيام بعمليات تغيير كبير والبحث عن موجبات النهوض التي تحرك الراكد وتؤشر نحو مستقبل جديد، أستاذ العلوم السياسية الذي توزعت جهوده بين الذهول والعجز والانخراط في جوقة النفاق؛ لكن جوهر وظيفته الكفاحية اختفى وتوارى أو يكاد، بدلا من استثمار هذه الفرصة الذهبية في زخم الثورات العربية وإطلاق شباب لشرارتها، كانت تلك فرصة حقيقية لأن يقوم هؤلاء بدور كبير في عملية التغيير ولا أقول في قيادتها، رغم أن هؤلاء يجب أن يقوموا بالدور الأكبر كقاطرة كبرى في عملية التغيير والتأثير.
وفي إطار هذا الاستعراض، يجب ألا ننسى أطرافا أخرى من الشباب الذين انخرطوا في فعل
الثورة وأكدوا ضرورتها، لا بالكلام والأقوال، ولكن بالحركة والأفعال، وقدموا جملة من الاجتهادات نظن أنها في بعض منها اتسم بالنضج والمتابعة وتراكم العمل الثوري، وفي كثير منها اتسم بحالة من الرومانسية أسرت هؤلاء الشباب، إلا أنه في الوقت ذاته، ظل الكبار من جملة الذاهلين العاجزين، فقام هؤلاء الشباب بمواقف ومضوا بأحوال كلها مع ذلك الزخم الثوري؛ كان لها التأثير المباشر على مجريات الأحداث، رغم افتقاد التوجيه القيادي والتمكين لقرارات الرشد السياسي وبناء استراتيجيات لإدارة الثورة وعملية التغيير المطلوب، بالإضافة لعدم الفطنة لحقيقة المضادين للثورة الذين تربصوا بها من كل جهة، تارة في العلن وتارة أخرى في الخفاء.
إن الطلب على السياسية من قبل الشباب بفعل الحدث الثوري صار كبيرا، ولكن مؤسسات الوعي كانت قليلة ونادرة، بل إنها في غالب الأحوال كانت متناثرة الجهود، مشرذمة الوجود، وبدت عملية الوعي، بدلا من أن تكون حالة مخططة، حالة للتقدير والعمل كيفما اتفق، من دون أي خطة حقيقية أو استراتيجية بنائية، وبدا هؤلاء الشباب يفكرون ويمارسون السياسة لا باعتبارها علما وفنا، ولكن باعتبارها ممارسة وحركة بما يخطر على البال، من دون التفكير بما يترتب على ذلك من مآل. وفي هذا السياق، ومع وجود أجهزة الدولة العميقة التي أدت دورا وشكلت قابلية للثورة المضادة، بدت المعركة محسومة بشكل أو بآخر لهذا الجانب.
نخبة محنطة وقوى سياسية "ديكورية" وشباب رومانسي تدفعه أشواق الثورة والتغيير، وكبار اهتموا بقضية التغيير، ولكنهم لم ينهضوا ساعتها حينما جد الجد، وظل الأمر فريسة حالة من الحيرة والتوجس، بينما عملت قوى الثورة المضادة لحصار الثورة والالتفاف عليها وعلى كل من يمثلها، من شباب أو من كبار، وبدا الأمر "رهين المحبسين"، محبس جلد الفاجر وآخر يتعلق بعجز وحيرة الأبناء والعلماء. واقترن كل ذلك بطلب كبير ومتزايد على السياسة، في محاولة للفهم أو الاستدراك، ولكن ذلك لم يكن لينهض وحده ليعبر عن حقيقة آمال الشباب واستثمار حالة الزخم الثوري.
ثمة مشكلة يشعر بها جيل الشباب من الباحثين في العلوم السياسية، وتتعلق بانفصال مجال العلوم السياسية عن واقع الحركة المتغيرة، وبالأخص في زمن الثورات والانقلابات الممتد منذ ست سنوات وما زال مستمرا إلى حين في عدد من الدول العربية. فقد كشفت التطورات المتلاحقة خلال تلك الفترة؛ عجز المتخصصين في مجال العلوم السياسية عن تقديم أطر تحليلية وتفسيرية قادرة على فهم الظواهر المحيطة، إضافة إلى العجز عن تقديم سياسات عملية قادرة على انتشال الدول من أزماتها المتراكمة منذ عقود، فضلا عن انتشالها من مجال التبعية للخارج على المستويات كافة.
مع تزايد ضغوط الواقع وما تكشّف من حقائق عميقة عن "الدولة العميقة" في بلادنا العربية والإسلامية، فقد وجد الباحثون أنفسهم أمام حالة مراجعة اضطرارية لحالة العلم وأجندة قضاياه السابقة وخريطة الأولويات، وصولا إلى الحالة الراهنة وما كشفته من مساحات لم ينلها من البحث ما نال أمورا أخرى في أقصى هامش الواقع السياسي. وحينما جد الجد بفعل ثوري واضح، اختفى العلم في التحليل والتفسير، وتوارى العلماء بدل القيام بالدور والوظيفة والرسالة في التغيير والتأثير.
في هذا المقام، فإن الشباب الباحثين في حقل العلوم السياسية كانت لهم انتقادات على مواقف الأساتذة، وكشفوا في بعض من نقدهم عن حالة الذهول والعجز من جانب الكبار، بل واعتبروهم بعد ذلك معوقين للعمل الثوري؛ في إطار بدا يشيع بينهم أن العجائز لا يمكنهم قيادة تغيير ولا ريادة تأثير، وأن الأمر قد يتحول إلى عملية شك في هذه النخبة السياسية والأكاديمية الذي رأى فيهم الشباب مساحات خذلان لثورة عظيمة طالما اشتاقوا إليها.. اشتاقوا لكل ما يرتبط بها من شعارات تؤسس لدولة ومجتمع حقيقيين يليقان بهذا الشباب.. وطن ومواطن يليقان بعضهما ببعض، يستشرفان التغيير ويؤكدان منظومة اجتماع وحكم جديد رشيد، يقوم على قاعدة من الفاعلية السياسية والرشد السياسي.
ومن هنا، فإن الشباب الذين كانوا محل انتقاد من العجائز، كانوا مبادرين هم الآخرون لانتقاد العجائز أنفسهم، وبما يعبر عن حقائق أساسية من أن هؤلاء قد يقومون بفعلهم، وبادعاء حكمتهم، وبفرض الوصاية على الشباب واتهامه بالتسرع والتهور وعدم الحكمة، رغم أن السرعة والجرأة هي من أهم قوانين الثورات، وأن هؤلاء العجائز وضعوا أنفسهم في مقدمة المشهد، من دون أن يفعلوا فعل القيادة الفكرية الرشيدة والطليعة التي تشكل قاطرة لعملية التغيير والتأثير. ظل هذا الشباب يتوق إلى ثورته، ولكنه وجد نفسه في النهاية غريبا ومنبوذا ومحاصرا ومتهما ومشوها ومشوشا، وفي بعض الحالات مستدرجا، حتى من هؤلاء الذين ادعو أنهم يسيرون في مواكب الثورة.. كان ذلك مؤديا إلى حالات غاية في الخطورة بالنسبة لهذا الشباب الناهض، فكان محقا في نقده، ولكنه كان رومانسيا في أدائه، وللثورات قوانين ماضية وللتغيير أحكام فاعلة.