قل ما شئت عن خيارات تجاوز المختنق الراهن الذي يكاد يسد شرايين الحياة في ليبيا، واسرد ما تشاء من بدائل معالجة الأزمة التي تعصف بالبلاد، لكن كل البدائل محكوم عليها بالفشل، أو بمحدودية الأثر الإيجابي، ما لم تقترن بمسار تنقية المناخ السياسي من آفاته القاتلة، وتصفية العقول وتمهيدها لمستوى متقدم من الوعي.
مصير الليبيين خلال السنوات القليلة الماضية ارتهن إلى تهييج بل وتحريف مبرمج، والمأساة أن التهييج والكذب المتعمد صار هو الحقيقة التي بنى عليها نخب وساسة ورموز اجتماعية مواقفهم، فكان أن ساهموا جميعا في الانحدار الذي وصلنا إليه، والأزمة الخانقة التي جعلت الليبيين يجثون على ركبهم من شدة وطأتها.
أريد أن أورد هنا مثالا بخصوص الآفة الخطيرة التي تسببت في وقوع البلاد في مستنقع الفوضى والمتعلق بالوعي العام والاختبار الذي واجهه.
دخل حاضر ومستقبل البلاد منذ عام 2013 المجهول، بفعل ادعاء بأن النفط الليبي يسرق عبر التلاعب بعدادات احتساب كميات النفط المصدرة.
ادعاء تلقفته ألسنة من المفترض أنها تنطق بالحكمة وترشد إلى المنطق والعقل في مواجهة التزييف، فجعلت من الادعاء حقيقة في عقول جمهرة واسعة من الليبيين فأيد الكثير منهم إغلاق الحقول، وسكت جمهرة خوفا من أن يتهم أنهم من ضمن السارقين المتلاعبين بعدادات النفط، وظل الصوت المعارض خافتا لا تأثير له.
وردت الحكومة وقتها، وأكدت أن هذا الادعاء ليس له أساس من الصحة، وخرج خبراء ومتنفذون في المؤسسة الوطنية ونفوا قطعيا أن يتم التلاعب في كميات تصدير النفط، وأن عملية تصديره تخضع لضوابط لا يمكن تجاوزها.
لكن الادعاء صار في النار كالهشيم، لأن منابر إعلامية ضخمته ونشطاء رفعوا عقيرتهم لنشره مستغلين عامل الخوف الفطري لدى المواطن الذي يجعله يصدق الادعاء ولا يواجهه بالحقيقة الظاهرة.
كان المفترض أن يطالب الجميع بتشكيل لجنة واسعة تضم مكونات رسمية وغيرها للتحقق من الموضوع، ونقل أعمال بحثها وتقصيها للرأي العام تباعا، وتعامل وسائل الإعلام معها بحرفية.
لكن هذا لم يحدث، وآثر المرجفون الاستمرار في مسار التضليل، وصمت العقلاء ولم يطالبوا بمنع الإرجاف والاحتكام إلى المنطق في التعامل مع هذا الواقع فكان أن برر كثيرون إغلاق الموانئ، وهيمنت مقولة "بقاء النفط تحت الأرض أفضل من تعرضه للسرقة"، فكان أن آلت الأوضاع إلى ما آلت إليه.
وبرغم ثبات زيف الادعاء، لكن إجراء رسميا واحد لم يتخذ ضد المروجين للفرية، ليستمر سيناريو التضليل لأغراض سياسية، وتستمر معه معاناة الليبيين لما يزيد عن أربع سنوات.
وانتهت كارثة النفط وعداداته بسيناريو سياسي كما بدأت، لكن مناورات التضليل لم تنته، وقابلية الرأي العام للاستجابة لهذا النوع من الخطاب مستمرة، وهو التحدي الأكبر في رأيي أمام التغيير المنشود والانتقال الصحيح.
يا إخوة لا يمكن أن نتجه بخطى ثابتة صوب ليبيا الناهضة، لم يتغير منطق التفكير وطرائق التغيير وأساليب التدافع السياسي لتأخذ منحى عقلانيا بعيدا عن العداء المستحكم والكره المستفحل.
لا يمكن أن تتحقق الأحلام في أن نرى ليبيا زاهرة والعقول تفكيرها تآمري والقلوب حقدها أسود، ولا مساحة لحسن النوايا والحرص على مصالح الناس.
فجر ليبيا سيشرق بضياء ساطع في اللحظة التي يكون في صدارة المشهد أهل الرشد وأصحاب الحكمة الذين يرتفع مقام الوطن والمواطنين عندهم على كل مصلحة أو هوى شخصي أو ولاء خاص، وهذا لا يكون إلا بالتواصي بالحق ورفض التضليل والتزييف، والاتجاه إلى الارتقاء بوعي المواطن ليكون أرفع من كل دعاية مغرضة وتضليل موجه وتوظيف سياسي.
وقفة مع قول سلامة: "أنا في خدمة الليبيين ولست بديلا عنهم"
لماذا فشلت كل مقاربات تأسيس جيش ليبي نظامي؟
رأيي في الجدل الدائر حول مسودة الدستور