بالأمس القريب، نشرت "هيئة
الحقيقة والكرامة" التي تأسست بعد الثورة للبحث في قضايا الانتهاكات التي عرفها النظام الاستبدادي
التونسي وثائقَ صادمة حول طبيعة النظام السياسي التونسي منذ ما سمي زورا "الاستقلال".
الوثائق التي قامت على معطيات أرشيفية ووثائق رسمية كشفت بجلاء أن تونس تقع تحت الوصاية الاستعمارية إلى اليوم، وأن ثروات الوطن كلها لا تملكها تونس بل يملكها المستعمر الأجنبي بالعقود والصفقات التي أمضاها الوكيل الاستعماري الأول
بورقيبة وأكدها الوكيل الاستعماري الثاني
بن علي.
لا يحق لتونس التصرف في ثرواتها من نفط وغاز وملح وكل أنواع الثروات الباطنية، بل لا تحصل الدولة إلا على ستة في المائة من حجم الثروات، وهي نسبة تذهب مباشرة إلى جيوب العصابة التي كانت تحيط بكل من بورقيبة وبن علي.
الصدمة كبيرة في تونس والصدمة ليست ناتجة عن الحقيقة نفسها فكل شعب تونس يعلم أن الدولة محتلة وأن ثرواتنا ليست ملكا لنا، وأن النظام الاستبدادي مع بورقيبة وبن علي لم يكونا غير حراس للثروات التي تتصرف فيها الشركات الاستعمارية الكبرى، ولا يحق للمواطن والشعب حتى الخوض في أمرها.
لكن الصدمة كانت من الوثائق الرسمية التي تظهر تنازلا مكتوبا من بورقيبة للمحتل الفرنسي عن سيادة الدولة مقابل البقاء في الحكم. ولم يقتصر الأمر على هذه الجريمة في حق الوطن والشعب بل أتبعها بورقيبة باغتيال كل رموز المقاومة الوطنية التي علمت بالصفقة وعلى رأسهم المناضل صالح بن يوسف.
كان بورقيبة يعلم أنه لن يستطيع الوصول إلى السلطة في تونس دون أن يحقق أمرين أساسيين: أولهما تقديم أقصى أنواع التنازلات للمستعمر من أجل ضمان السلطة وأن يبقى وكيلا حصريا للقوة الاستعمارية. أما الأمر الثاني فيتمثل في تصفية كل خصومه السياسيين وكل وجوه المقاومة التونسية حتى لا ينكشف أمره وحتى لا ينافسه أحد بعد ذلك.
كان لبورقيبة ما أراد وقامت القوات الاستعمارية الفرنسية بمساعدته على تصفية الثوار على الأرض من فرحات حشاد إلى صالح بن يوسف إلى المئات من وجوه حركة المقاومة المسلحة والمقاومة السياسية.
نجح وكيل الاستعمار بعد أن خلت له الساحة في ترسيخ منظومة الاستبداد الجديد ونجح كذلك في تمكين الشركات الاستعمارية من ثروات الوطن وتحولت مواطن التنقيب والشحن إلى مناطق عسكرية محروسة بقوة السلاح ولا يعرف عنها التونسيون شيئا.
بل الأخطر من ذلك، أن بورقيبة كان يؤكد كل يوم على أن تونس دولة فقيرة وأنها لا تملك ثروات باطنية، وأن الله اختارنا فقراء، لكنه أعطانا "المادة الشخمة" ويقصد الذكاء. هذا الذكاء لم يكن في الحقيقة غير استغفال لشعب فقير كان ولا يزال يؤمن بأن السياسي في الدولة الاستبدادية يمكن أن يكون شيئا آخر غير وكيل استعماري في أحسن الحالات مثل الرئيس بورقيبة نفسه.
اليوم يقف التونسيون مصدومين أمام هول الوثائق والاتفاقيات التي أبرمت على حساب مستقبلهم ومستقبل أبنائهم وهم الذين لا يزالون يعانون الفقر والتهميش وحتى الموت جوعا.
إن ما نشرته هيئة الحقيقة والكرامة مؤخرا من وثائق تعد شهادة حية على لحظة تاريخية فارقة في واحدة من مزارع الاستبداد العربي حيث تمثل الثروة الوطنية وخيرات البلاد الثمن الذي يجب على السياسي دفعه للقوى الاستعمارية من أجل أن يجلس على كرسي الحكم لمدة تقصر أو تطول حسب ولائه للعقود التي أبرمها من أجل بيع وطنه.
صحيح أن تلازم الثروة والاستعمار والاستبداد ليست خاصية تونسية بل هي تنسحب على كل مزارع الموت العربية تقريبا وعلى كل مزارع الاستبداد العالمية أيضا حيث لا يشكل النظام السياسي القمعي في الحقيقة إلا جسر المستعمر للحصول على الثروة وتسهيل نهبها.
إن الحرب الحقيقية التي تخوضها تونس الثورة اليوم والتي قد تشجع أنياب الدولة العميقة على انقلاب دام على السلطة وعلى الثورة إنما تتمثل في الحرب على الفساد بشكله الأكبر والأصغر.
وليست العقود الاستعمارية المذلة إلا رأس هرم الفساد الذي يتمثل في الحقيقة في شكل متقدم من أشكال الغزو الناعم والاحتلال المقنّع.
لن تتحرر تونس ولن تتحرر أقطار العرب إلا حين تضع الشعوب يدها على ثرواتها وحين تصبح الثروة في خدمة الإنسان وفي خدمة الشعب لا في خدمة الوكيل الاستعماري وعصابته.
إن فضح جرائم بورقيبة وبن علي هي التي أيقظت ضباع الثورة المضادة الذين تصدروا المنابر الإعلامية والإذاعية من أجل تشويه رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة السيدة سهام بن سدرين.
بل وصل الأمر ببعض المرتزقة إلى نعتها بأبشع الأوصاف من أجل كسر الأثر الذي قد يحققه ما نشرته في وعي المواطن البسيط.
تعيش تونس اليوم معركة حاسمة هي معركة الثروات، معركة تبدأ بالوعي بقيمة الثورة والوعي بالقدرة على استردادها، لأن استرداد الثروة ليس قيمة مادية فحسب، بل هو أولا وقبل كل شيء قيمة معنوية وقيمة سيادية تؤكد استقلال الوطن وتؤكد كرامة الإنسان وسلطته على أرضه.