ربط البنتاغون بقاء القوات الأمريكية في سورية بالمواجهة مع «داعش». وصرح مدير هيئة الأركان المشتركة في وزارة الدفاع الجنرال كينيث ماكينزي، بأن الولايات المتحدة ستعدل مستوى وجودها في هذا البلد بنهاية المواجهة مع «تنظيم الدولة». لذلك، «لم يتغير شيء فعليا».
لكن الصحيح أن الاستراتيجية التي لم تكد ترى النور أفرغت من معظم أهدافها الرئيسية. لم يعد هذا الوجود مرتبطا بأهداف هذا الوجود، التي أعلنها وزير الخارجية ريكس تيلرسون المقال بعد نقاش استمر أشهرا بين مراكز القرار المختلفة في واشنطن. فقد أكد مطلع السنة أن قوات بلاده باقية في بلاد الشام لضمان عدم عودة «داعش»، ولمواجهة نفوذ إيران وتوسعها، وأداء دور فاعل في الحل السياسي، فلا يظل حكرا على روسيا وشريكيها في أستانة وسوتشي. يعني ذلك أن الرئيس دونالد ترامب مصمم عمليا على الانسحاب، خصوصا مع اقتراب الانتخابات النصفية للكونغرس في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل.
وهي انتخابات يرجح كثيرون أن تنهي سيطرة الجمهوريين على مجلسي النواب والشيوخ. وهو أمر سيكبل يدي الرئيس. لذلك بدا حريصا على «الوفاء» بوعوده الانتخابية، وعلى رأسها شعار «أمريكا أولا»، وتحفيز الاقتصاد، وإشراك الحلفاء والشركاء في أوروبا والشرق الأوسط في تحمل أعباء الجهود العسكرية والأمنية. وهو قال في إعلانه المفاجئ قرار الانسحاب سريعا من بلاد الشام، أن الولايات المتحدة أنفقت سبعة تريليونات في حروب الشرق الأوسط في العقدين الأخيرين.
توضيحات
البنتاغون لم تطو إذا قرار الرئيس. أرجأت تنفيذه إلى حين إنهاء الحرب على «داعش».
وهي باتت وشيكة، إلا إذا صحت اتهامات «ثلاثي أستانة» لأمريكا بأنها «ترعى» الإرهاب
وتقف خلفه! وإذا كانت عين الرئيس على الانتخابات النصفية، فإن قراره يجب أن يرافق
هذا الحدث أو يسبقه ليؤدي فعله في جمهور الناخبين. ويعني انسحاب القوات الأمريكية،
بخلاف رغبة أركان الإدارة الصقور كما اتضح ويتضح، أن ترامب لا يريد الانتقام من
سياسة وزيره «السابق» تيلرسون فحسب. فالأخير واحد من مهندسي هذه السياسة، وعلى
رأسهم خليفته مايك بومبيو مدير الاستخبارات، ووزير الدفاع جيمس ماتيس وآخرون. بل
هو يخطو خطوة إلى الخلف.
يعود إلى سياسة سلفه باراك أوباما بالابتعاد من هذا البلد وتركه للمتصارعين الآخرين ليتدبروا أمره، كما قال. بل هو يكرر ما سماه سابقا خطأ سلفه بالانسحاب من العراق وتركه للجمهورية الإسلامية، بعد كل التضحيات البشرية والاقتصادية التي دفعتها الولايات المتحدة في غزوها بلاد الرافدين. لكنه على رغم ذلك يظل «أمينا» لشعاراته وفهمه بوجوب إشراك جميع الحلفاء الحريصين على مصالحهم في المنطقة في تحمل التبعات والنفقات، فلا يظل ذلك على كاهل الولايات المتحدة. وهو ما يخالف مواقف كثيرين يرون أن سياسته هذه مغامرة في إضعاف موقع الولايات المتحدة ودوره وتهديدا لمصالحها الاستراتيجية.
والأهم
هنا أن ترامب يناقض التزاماته السابقة في مواجهة نفوذ روسيا وإيران في بلاد الشام
التي كان ينظر إليها ساحة المواجهة الرئيسية، وليس في العراق حيث تختلف الظروف
تماما. فهنا، توقفت الحرب مبدئيا مع قيام السلطات والمؤسسات والإدارات، وإن
استمر الصراع بين النفوذين الأمريكي والإيراني. فطهران ترجمت حضورها بقوى عسكرية
وازنة هي «الحشد الشعبي» الذي بات يحظى بشرعية لا نقاش فيها. كما أن رئيس الوزراء
حيدر العبادي كرر مجددا قبل أيام أن بغداد تنأى بنفسها عن هذا الصراع. وأنها تقف
على الحياد. مع العلم أن مثل هذا الموقف، بعيد كل البعد من الواقع. فرئيس
الحكومة العراقية يدرك تماما أنه لا يمكنه الذهاب بعيدا في تجاهل مصالح
الجمهورية الإسلامية، أو الانحياز إلى خصومها. بل لا قدرة له على هذا التحول إذا
كان يرغب فعلا في ذلك. فهو ينتمي أولا وأخيرا إلى «حزب الدعوة»، وجل زملائه في
الحزب هم الأقرب إلى طهران.
وتدرك واشنطن جيدا أن المعركة الانتخابية تنحصر بين القوى الشيعية أساسا، في ظل تشتت القوى السنية وحتى الكردية التي يمكن أن تراهن عليها لتقليص نفوذ إيران. صحيح أن ثمة خصوصية لدى شيعة العراق، ويتمتع بعض قواهم السياسية، كما المرجعية الدينية بحساسية حيال هذا النفوذ المتعاظم. كما أن مرجعياتهم بغالبيتها العظمى لا توالي نظرية «ولاية الفقيه»، وتتمسك بأرجحية النجف قبلة وحوزات على قم وغيرها من مراكز للمذهب الجعفري. لكن الصحيح أيضا أن الجمهورية الإسلامية قادرة على تطويع «المعترضين». وهي فعلت ذلك في السابق، متجاوزة القوانين ورغبات جميع المعنيين بمستقبل العراق.
الرئيس
ترامب استبق في قراره قمة الرؤساء الروسي والتركي والإيراني في أنقرة الذين
انشغلوا بتفسير إعلانه المفاجئ الانسحاب قريبا جدا من سوريا، والتصريحات
المتضاربة لبعض المسؤولين في واشنطن حيال هذا القرار. فلا يعقل منطقيا في تقديرهم
أن من يسعى إلى إنهاء «تنظيم الدولة» ومواجهة موسكو وطهران وينازع أنقرة، يقرر
فجأة أن يخلي الساحة لهذه العواصم التي تناصبه العداء.
وإلا ما معنى أن يبدل في أركان إدارته بتولية الصقور المتشددين من دعاة هذه المواجهة وزارة الخارجية والأمن القومي؟ فلا الحرب على «داعش» انتهت في بلاد الشام ولا في العراق أيضا، ولا الجمهورية الإسلامية وحلفاؤها تقلص نفوذهم في المنطقة. بل حققوا مزيدا من التقدم في الغوطة الشرقية. ويعملون على إنهاء وجود كل الفصائل المتشددة والمعتدلة في شرق العاصمة وجنوبها. ويهددون بالتوجه نحو الجبهة الجنوبية حتى الحدود مع الأردن وإسرائيل. فيما تلوح تركيا كل يوم بالتقدم نحو المناطق الكردية التي تنتشر فيها قواعد لقوات أمريكية من منبج إلى شرق سوريا وشمال شرقها. فالشركاء الثلاثة في أستانة، يعرفون أن وجود القواعد شكل ويشكل حاجزا أمام توسع انتشار قواتهم وتوسيع مناطق نفوذهم في هذا البلد. ويبقى عقبة أمام سعيهم إلى السيطرة الكاملة عليه. ويحول حتى الآن دون تنفيذ مشروعهم للتسوية السياسية، بعيدا من البيانات والقرارات الدولية. وهم يخشون أن يؤدي مثل هذا الانسحاب المبكر بقدر ما يرضيهم، فإنه يتيح لبقايا «داعش» و «القاعدة» فرصة إعادة جمع صفوفهم. أو في أحسن الأحوال يستعجل قيام تنظيم مماثل يحذر كثيرون من نشوئه على مرارات أهل السنة في سوريا والعراق، الذين يشعرون بأن العالم تخلى عنهم. ألم يخرج «تنظيم الدولة» من رحم «دولة الزرقاوي» وبقايا إرهابييه؟
وخلف إعلان الرئيس ترامب تداعيات وشكوكا في أوساط المعنيين بالأزمة السورية. وهو بقدر ما أقلق الكرد الذين لم يصغوا لتحذيرات من احتمال تخلي الولايات المتحدة عنهم، ولم يعتبروا من موقفها حيال الاستفتاء في كردستان في أيلول (سبتمبر) الماضي، أقلق أيضا فصائل المعارضة التي استبشرت بموقف أمريكي مختلف مع الإدارة الجديدة، ذهبت توقعاتها مع ما لحق ويلحق بضواحي دمشق الشرقية والجنوبية هذه الأيام. وأبعد من ذلك، طرح موقف الرئيس الأمريكي على قمة أنقرة سؤالا كبيرا عن الجهة أو الجهات، التي ستملأ الفراغ الذي سيخلقه انسحاب القوات الأمريكية بعد بضعة أشهر. ولو لم تكن هناك شكوك في مقاصد ترامب، وخلافات سياسية كامنة بين الشركاء الثلاثة في أستانة أو رؤى مختلفة لمشروع التسوية وتوزيع مناطق النفوذ ومستقبل النظام في دمشق، لما كان هناك داع لمثل هذا السؤال ولمزيد من التوتر بينهم وبين الولايات المتحدة.
صحيح
أن هذا الثلاثي رجحت كفته في تقرير الأوضاع العسكرية والأمنية في غالبية المساحة
السورية، وفي رسم صورة التسوية انطلاقا من تفاهمات العاصمة الكازاخستانية ومقررات
سوتشي. لكن الصحيح أيضا أن نفض واشنطن يدها من أزمة سوريا، سيخلق تعقيدات بمواجهة
هؤلاء. فثمة من يعتقد بأن خروج أمريكا من الميدان لا يعني تخليها عن نفوذها الذي
ستحرص على رعايته بوسائل أخرى. قد تدفع ببعض حلفائها من أوروبيين وعرب إلى التفاهم
على نشر قوة بديلة بالتفاهم مع الكرد وبإعطاء تركيا ضمانات من أجل ملء الفراغ. ولا
شك في أن طهران التي طالبت بتسليم مناطق النفوذ التركي الشمالية إلى القوات
النظامية، لا يروقها أن يتوسع نفوذ تركيا في بلاد الشام. ولا يروقها أيضا سعي هذه
إلى جمع قادة العشائر في الجزيرة لدفع الكرد إلى مغادرة مناطق عربية واسعة وتقليص
رقعة «فيديراليتهم». وهو أمر قد يصبح واقعا، خصوصا أن هؤلاء انتشروا في مناطق
واسعة تفوق قدرتهم على التحكم بجغرافيتها وديموغرافيتها، خصوصا أن ثمة تاريخا من
المنازعات بينهم وبين العرب وغيرهم من العرقيات، عمل نظام البعث على تغذيتها على مر
السنين. وهناك من يتوقع دورا أكثر نشاطا لبعض الدول الأوروبية، خصوصا فرنسا،
ولبعض القوى العربية التي يمكنها أن تشكل بديلا يتسلم الأمر بعد الانسحاب
الأمريكي. ولا يغيب هنا عن بال كل من روسيا وإيران أن دفع هذه الأعداد الهائلة من
الفصائل العسكرية نحو التمركز في شمال سوريا، يمنح تركيا ورقة كبيرة تهدد بها
النظام وتعزز موقعها في أستانة أو خارج هذا المسار.
ومثل
هذا الأمر ينطبق على جبهة الجنوب التي لا يمكن أن تخليها القوات الأمريكية من دون
ترتيبات تحول دون توسع إيران والنظام. وكانت الحكومة الإسرائيلية المصغرة للشؤون
السياسية والأمنية أجرت قبل أيام نقاشات استراتيجية، تناولت سيناريو «اليوم التالي»
لانتهاء الحرب في سوريا واستعادة النظام السيطرة على غالبية مناطق البلاد. وتناولت
أيضا «جهود إيران لتحويل سوريا قاعدة عسكرية قبالة إسرائيل». وشددت على أن الدولة
العبرية لن تقبل بمثل هذه القاعدة. وكان رئيس الحكومة بنيامين نتانياهو حض زعماء
أوروبيين على العمل لمنع «أي وجود لإيران وأذرعها في الأراضي السورية». هكذا يكون
الأصيل الأمريكي قد انسحب من سوريا، مخليا الساحة للوكلاء... ويستمر الصراع على
هذا البلد إلى أن يحسم ترامب حروبه في الداخل والخارج.
الحياة اللندنية